ميسون محمد، محامية وباحثة مختصة بقضايا المرأة.
اللوحة من عمل الفنانة السورية ديمة نشاوي.
تعد قضية تحرير المرأة في سوريا من أكثر القضايا تعقيدًا وحساسية، حيث تتداخل فيها الجوانب الاجتماعية والدينية والثقافية لتشكل واقعًا معقدًا يتطلب فهماً عميقاً وشاملاً. منذ القدم، كانت المرأة السورية تواجه قيودًا متعددة تفرضها العادات والتقاليد الاجتماعية، بالإضافة إلى التفسيرات الدينية التي غالبًا ما كانت تُستغل لتبرير هذه القيود. هذا الواقع لم يتغير بشكل جذري حتى مع بداية الثورة السورية في عام 2011، حينما وجدت النساء أنفسهن في خضم صراع متعدد الأوجه من أجل حقوقهن وحرياتهن.
القيود الاجتماعية والتقاليد
المجتمع السوري، كباقي المجتمعات العربية، يعاني من ترسخ بعض العادات والتقاليد التي تفرض أدوارًا محددة على النساء. هذه الأدوار غالبًا ما تكون مقيدة ومحكومة بنمط حياتي تقليدي يفرض على المرأة البقاء في المنزل ورعاية الأسرة. فالمرأة تُعتبر ركيزة أساسية للأسرة، ولكن دورها يقتصر على المهام المنزلية وتربية الأطفال، مما يحرمها من فرص التعليم والعمل والمشاركة الفعالة في الحياة العامة. هذه العادات لم تكن مجرد ممارسات اجتماعية بل كانت تتخذ طابعًا شبه مقدس، مما جعل التغيير أمرًا بالغ الصعوبة.
في كثير من المناطق الريفية، تُجبر الفتيات على الزواج في سن مبكرة، في خطوة تهدف إلى ضمان "حمايتهن". هذه الزيجات غالبًا ما تكون قسرية وتؤدي إلى حرمان الفتيات من حقهن في التعليم والعمل وتطوير مهاراتهن الشخصية. بالإضافة إلى ذلك، تعاني المرأة المتزوجة من ضغوط اجتماعية كبيرة للحفاظ على الزواج بأي ثمن، مما يحد من فرصها في تحقيق الاستقلال الذاتي والمهني. حيث تخشى النساء من الطلاق بسبب الوصمة الاجتماعية التي تلاحق المطلقات في العديد من المجتمعات، إذ يُنظر إليهن بنظرة سلبية ويُعتبرن أحيانًا فاشلات في أدوارهن الزوجية والأسرية. علاوة على ذلك، يترافق الطلاق غالبًا مع تحديات اقتصادية كبيرة، إذ قد تفتقر النساء إلى الموارد المالية اللازمة لدعم أنفسهن وأطفالهن بعد الانفصال، مما يزيد من تعقيد قرارهن بالطلاق. هذا الوضع يدفع العديد من النساء إلى البقاء في علاقات غير صحية خوفًا من العواقب الاجتماعية والاقتصادية المترتبة على الطلاق.
التفسيرات الدينية
من الجانب الديني، كانت التفسيرات المتشددة للشريعة الإسلامية تُستغل في بعض الأحيان لتبرير قمع المرأة وتقليص حقوقها. على الرغم من أن الإسلام أتاح للمرأة مساحة كبيرة في التعليم والعمل والمشاركة الاجتماعية، إلا أن الفهم الرجعي للدين في بعض المناطق كان يعزز النظرة الدونية للمرأة ويعيق تطورها. هذا الفهم الرجعي غالبًا ما كان يصطدم مع التفسيرات الصحيحة التي تدعو إلى إعطاء المرأة حقوقها وتحريرها من القيود الاجتماعية. على سبيل المثال، يُستخدم الحق في التعليم في بعض الأحيان كأداة للتمييز بين الجنسين، حيث تواجه النساء في بعض المجتمعات صعوبات في الحصول على نفس فرص التعليم المتاحة للرجال.
نماذج من النضال
في بعض المناطق السورية، بدأت النساء بكسر القيود والمطالبة بحقوقهن بجرأة وشجاعة. حيث بدأت تظهر دعوات تسعى لتعزيز حقوق النساء، وحركات نسائية ونسوية، تهدف إلى رفع مستوى الوعي حول حقوق المرأة وتعمل على تشجيع التعليم والمشاركة في سوق العمل. ورغم مقاومة القوى المحافظة التي تسعى إلى الحفاظ على الوضع الراهن، استمرت النساء في نضالهن. قمن بتنظيم ورش عمل ومبادرات اجتماعية لتطوير مهاراتهن، وانخرطن في العمل السياسي والاجتماعي لتغيير القوانين التي تميز ضدهن. استطعن تحويل قصصهن الشخصية إلى مصدر إلهام للكثيرات، مما يعزز من قوة الحركة النسائية والنسوية في سوريا ويدفع نحو تحقيق تغيير حقيقي ومستدام في المجتمع.
الثورة والمشاركة الفعالة
مع اندلاع الثورة السورية، شهد المجتمع السوري انفتاحًا غير مسبوق على نقاشات جديدة حول حقوق المرأة. النساء السوريات شاركن بفعالية في المظاهرات و كل الأنشطة المدنية والأعمال الإغاثية، وأثبتن قدرتهن على تحمل المسؤوليات الكبيرة في أوقات الأزمات. هذه المشاركة الفعالة كانت بمثابة تحدٍ واضح للتقاليد القديمة، وأظهرت للعالم أن النساء قادرات على المساهمة في بناء مستقبل بلادهن.
لم تكن الطريق سهلة أمام النساء السوريات. فقد أصبحت الانقسامات الأيديولوجية بين التوجهات العلمانية والدينية أكثر وضوحًا، مما أدى إلى تعقيد النقاش حول تحرير المرأة. بعض النساء اختارت خلع الحجاب كرمز لتحررهن من القيود التقليدية، في حين اختارت أخريات ارتداءه كجزء من هويتهن الدينية والثقافية. هذه الخيارات الشخصية أصبحت محل جدل واسع وأثارت ردود فعل متباينة من مختلف الأطراف، مما يعكس التحديات العميقة والمتشابكة التي تواجه النساء في سوريا. هذه الانقسامات تعكس بدورها تعقيد المشهد السوري، حيث تتداخل العوامل الثقافية والدينية والاجتماعية لتشكل واقعًا معقدًا يتطلب فهماً دقيقاً وشاملاً.
نحو تحرير شامل
إن تحرير المرأة في سوريا لا يمكن تحقيقه بشكل كامل دون معالجة الجوانب الثقافية والدينية والاجتماعية التي تفرض قيودًا على حقوق النساء. يجب أن يتم تبني نهج شامل يعترف بتعدد الهويات والرؤى، ويستطيع مواجهة التحديات الحالية. هذا النهج يجب أن يستند إلى تجارب النساء أنفسهن، وأن يعبر عن واقعهن وطموحاتهن بطريقة تعكس التزامًا حقيقيًا بالتحرر والعدالة. يجب أن تتضافر الجهود من مختلف الأطراف المجتمعية والدينية والسياسية لإيجاد حلول تحقق توازنًا بين الحفاظ على الهوية الثقافية والدينية وبين حقوق المرأة.
في الختام، تحرير المرأة في سوريا هو جزء لا يتجزأ من النضال الأكبر من أجل الحرية والكرامة. لا يمكن تحقيق هذا التحرير دون تغييرات جذرية في البنية الاجتماعية والسياسية التي تفرض قيودًا على حقوق النساء. وبينما قدمت الثورة السورية فرصة غير مسبوقة لإعادة صياغة هذه البنية، فإن النجاح في تحقيق تحرير حقيقي للمرأة يتطلب جهدًا مستمرًا وواعيًا من جميع الأطراف المعنية. علينا أن نستمع إلى أصوات النساء السوريات، وأن ندعمهن في نضالهن من أجل مجتمع أكثر عدالة ومساواة. فقط من خلال هذا النهج الشامل يمكننا أن نأمل في تحقيق التحرر الكامل للمرأة السورية.
ميسون محمد، محامية وباحثة مختصة بقضايا المرأة.