top of page

منزل الذكريات ومجد الذي لن يعود..



لجين شماشان، طالبة ثائرة.




البوستر من تصميم رسامة الكاريكاتير أماني العلي.

ملاحظة: كُتبت هذه المقالة قبل سقوط نظام الأسد وانتصار الثورة وتحرير سوريا.


منذ طفولتي، كانت لدي علاقة عميقة مع أخوالي. لم يكونوا مجرد عائلة بالنسبة لي، بل كانوا كالإخوة والأصدقاء، وجزءًا أساسيًا من حياتي. أتذكر الأيام الطويلة التي أمضيناها معًا، نلعب في الحديقة، نضحك حتى البكاء، ونتبادل الأسرار التي لا يفهمها أحد سوانا. كل لحظة قضيتها معهم كانت ثمينة، كانت سعادة بسيطة لا تقدر بثمن. لقد كانوا أبطالي، دائمًا مستعدين لحمايتي وإرشادي.


علاقتي بهم كانت قوية جدًا لسببين: الأول، طبيعة عمل والدي في مكان بعيد خارج داريا، والثاني، عمل أمي كمدرسة للغة الإنجليزية في داريا. فالمكان الوحيد الذي كانت تتركنا فيه هو منزل جدي (والداها)، حيث كان أخوالي دائمًا موجودين. لهذا كنت قريبة منهم طوال الوقت. تعلقي بهم كان عميقًا إلى درجة أنني كنت أرفض بشدة العودة إلى المنزل مع أمي مساءً، مفضلة البقاء والنوم في منزل جدي.


طفولتي ارتبطت بتلك الفترة الزمنية من حياتي. عندما أتذكر طفولتي، فإنني أتذكر تلك الأيام معهم فقط. لا يوجد شيء آخر يرسخ في ذاكرتي، حتى أنني لا أتذكر منزلنا في داريا. كل ما أذكره هو منزل جدي لأمي الذي كنت أنام فيه.


ومع ذلك، تغير كل شيء في يوم من الأيام. اندلعت الثورة ، ومزق نظام الأسد نسيج حياتنا السلمي. أخوالي الأعزاء، تم القبض عليهم. كان الألم الذي غمرني عند سماع هذا الخبر لا يوصف. كل يوم يمر دون أخبار منهم كان بمثابة ثقل إضافي على قلبي. رغم ذلك، ظل لدي أمل ضئيل في رؤيتهم مرة أخرى.


عندما بدأت الثورة واعتُقل خالي مجد، كانت صدمة كبيرة لنا. في الوقت ذاته، اضطررنا إلى مغادرة داريا بسرعة. توالت الأحداث وتم تهجيرنا. لم أكن قادرة على استيعاب الصدمة.خسرنا أشخاصًا أحببناهم ولم نستطع حتى أن نحزن عليهم بالشكل الذي يستحقونه.


أتذكر عام 2012 عندما كان جدي يحاول بكل الطرق الحصول على إذن لزيارة اخوالي. كانوا ثلاثة أخوال ( محمد، عبد الستار، مجد) لكن مجد بقي محفورًا في ذاكرتي بشكل خاص بسبب تواجده الدائم في منزل جدي أثناء طفولتي. لاحقًا، اكتشفنا أن مجد وخالي عبد كانا في سجن صيدنايا.


زرناهم في سجن صيدنايا في نهاية عام 2012، تحديدًا في شهر ديسمبر. كان الطقس باردًا جدًا، والوضع مأساويًا. عندما رأيناهم، لم نعرفهم إلا من أصواتهم. كان البريق في عيونهم يحمل بصيص أمل رغم وضعهم السيئ. المعتقل هناك يتحول إلى هيكل عظمي، ويصعب التعرف عليه إلا من صوته. وبيننا وبينهم كانت أسلاك كثيرة تفصلنا، وكأن المسافة لم تكن كافية للتعبير عن القهر.


رغم الثلوج والبرد القارس، كنا نقف لساعات طويلة قبل السماح لنا بالدخول لرؤيتهم. كانت المعاملة قاسية، أقرب إلى التنكيل. أكبر صدمة كانت عندما لم تستطع جدتي التعرف عليهم إلا من أصواتهم. ورغم ذلك، كانوا هم من يعطوننا الأمل، بينما كان من المفترض أن نكون نحن من نمنحهم إياه.


حزننا كان هائلًا. كانوا معزولين تمامًا عن العالم، لا يعلمون شيئًا عن ما يحدث خارجه. أحضرنا لهم ملابس شتوية للتدفئة. لم نكن نعلم أنها ستكون آخر مرة نراهم فيها، وأن النهاية كانت هناك.


بعدها، حاولنا طلب زيارتهم مجددًا، لكن الإجابة كانت دائمًا: "ليسوا عندنا." عندها أدركنا أنهم استشهدوا تحت التعذيب.

لاحقًا وصلنا خبر عن اعدامهم في سجن  صيدنايا. فجأة، انطفأ الأمل الضئيل الذي كان في داخلي. علمت أنهم قتلوا في ظروف غير إنسانية. ترك غيابهم فراغًا كبيرًا في قلبي، وجرحًا لن يُشفى.

عندما أخرجنا شهادة الوفاة كان فيها أن سبب الوفاة "جلطة" للجميع في نفس الوقت. من هو الغبي الذي  يصدق هذا الكلام؟ غالباً تم إعدامهم، رحمهم الله.


حتى اليوم، ما زالت ثيابهم في الخزانة. أحضرناها معنا من سوريا إلى فرنسا. لم تُغسل أبدًا، وما زالت تحمل رائحتهم. في المنزل، نتحدث عنهم كما لو أنهم ما زالوا بيننا. أمي تذكرهم على مائدة الطعام، وكأنهم موجودون. "كان يحب هذه الطبخة، لو كان موجودًا لكان قد أكل معنا."

بالنسبة لي، خالي مجد كان الأقرب إلى قلبي. خسارته كانت كخسارة جزء من نفسي.

بعد مغادرتنا سوريا، بدأت أستوعب حجم ما عشناه. في البداية، لم أكن قادرة على التعبير عن ذلك. كنت مشغولة فقط بالبقاء على قيد الحياة.

رغم كل شيء، لدي أمل كبير أنهم يستطيعون سماعنا أينما كانوا. أنا على يقين أنهم في مكان أفضل.


خالي محمد اعتُقل قبل أن يرى طفله الذي وُلد بعد استشهاده. أما خالي عبد، فقد ترك أطفالًا صغارًا لم يرهم يكبرون.

هذه الخسارة جعلتني غير قادرة على الارتباط بالآخرين. ابتعدت عن أصدقائي، الأشخاص الذين أرادوا مساعدتي، معتقدًة أنني بابتعادي أحمي نفسي. لكن في قلبي كنت أعلم أن هذه الوحدة كانت تقتلني ببطء. بدأت أتجنب تكوين روابط عميقة، مقتنعًة بأن الارتباط لا يؤدي إلا إلى المعاناة. لقد كنت ظلًا لا يلاحظه أحد في العالم.


ومع ذلك، في أحد الأيام التقيت بشخص غير وجهة نظري. هذا الشخص بلطفه وتفهمه رأى الألم الذي كنت أخفيه. كنت مترددًة في البداية، لكن صبره مهد لي الطريق ببطء للشفاء. تبادلنا القصص والضحك والدموع، وشيئًا فشيئًا بدأت أرى أنه حتى في خضم الألم، كان هناك نور. لقد أظهر  لي أن الحياة يمكن أن تعود جميلة مرة أخرى، حتى بعد الخسارة الفادحة.


عندما مررت بعملية الشفاء هذه، أدركت أنني لا أستطيع أن أترك ألم الماضي يحدد مستقبلي. لقد تعلمت تكريم ذكرى أخوالي من خلال العيش بشكل كامل، واختيار احتضان الحياة وخلق ذكريات جديدة. شيئًا فشيئًا، بدأت في إعادة التواصل مع الآخرين، لأفتح قلبي مرة أخرى. واكتشفت أن ما عشته ليس علامة ضعف، بل علامة قوة.


واليوم، حتى لو بقي فقدان أخوالي جزءًا من قصتي، فإنني أحمل ذكراهم بالحب، واخترت أن أعيش من أجلهم. تعلمت أن أقدر كل لحظة، وأن أحتفل بالحياة رغم آلامها. ربما هذه هي القوة الحقيقية: الاستمرار في المضي قدمًا، والحب والضحك، حتى بعد أن تفقد جزءًا من نفسك.


لجين شماشان، طالبة ثائرة.


مشاهدة واحدة (١)

أحدث منشورات

عرض الكل
bottom of page