top of page

مشاهد من ذاكرة شابة كردية



إيفا فيراز،صحفية سورية.




البوستر من تصميم رسامة الكاريكاتير أماني العلي.

ملاحظة: كُتبت هذه المقالة قبل سقوط نظام الأسد وانتصار الثورة وتحرير سوريا.


الشعب الكردي هو أحد أقدم شعوب الشرق الأوسط، يتميز بثقافته الفريدة ولغته الكردية، ويعيش بشكل رئيسي في مناطق مقسمة بين تركيا، سوريا، العراق، وإيران. عبر التاريخ، تعرض الكرد لأشكال متعددة من الظلم، وصلت حدّ منعهم من التحدث بلغتهم في الأماكن العامة والمدارس ولم تتوقف عند القمع والتهجير القسري. في سوريا، وخاصة في زمن نظام الأسد الأب والإبن ، عانى الكرد من سياسات تهميش ثقافي ولغوي طويلة وممنهجة حيث كانت لغتهم محظورة، ما جعلهم يشعرون بأنهم غرباء في وطنهم. وعلى الرغم من مرور الأزمات وتواليها، بقي الكرد صامدين، ولكنهم ظلوا يواجهون صعوبات تهدد هويتهم وحقوقهم.


كبرتُ في بيتٍ يجمعني وعائلتي بلغتنا الأم، اللغة الكردية، التي كانت جزءاً من حياتنا اليومية ومن هويتنا الأصيلة؛ نتحدث بها، نغني، ونروي قصصنا، وكان لكل كلمة وقع خاص في ذاكرتي. لكن عند التحاقي بالمدرسة، كان الواقع مختلفاً، فهناك كانت لغتنا محظورة، ولم يسمح لنا باستخدامها. كنا مجبرين على الحديث بلغة أخرى، في حين كنا نحاول الحفاظ على هويتنا، ومع ذلك كنا نشعر بنظرات تضعنا في خانة "القوم الآخرين". وقد ترك هذا الوضع أثراً عميقاً في نفسي، أنا وجيلي من الأطفال الكرد، حيث عشنا هذه التجربة منذ الطفولة، وكأننا نحمل على أكتافنا عبء كوننا "مختلفين".


مع مرور الوقت واندلاع الثورة السورية، بدأت بعض الموازين تتغير، وظهرت لنا فرصة استعادة هويتنا. أتيح لنا المجال أخيرًا لتعلم لغتنا الأم، بل والالتحاق بالجامعة باللغة الكردية، وهو ما لم أكن أتخيله يوماً. هذه التجربة أثرت فيّ بشكل عميق؛ فأن أتعلم بلغتي، وأعيش حياتي اليومية دون قيدٍ أو خوف، كان بمثابة نقطة تحول حقيقية. شعرت حينها بأني أصبحت أخيراً في أمان، وبدأت أخطو خطوات حياتي بثبات واستقرار، وكأنني أملك كل شيء: لغتي، هويتي، وأحلامي.


لكن مع كل إحساس بالأمان والاستقرار، كانت تعود الهجمات التركية على منطقتنا، لتعيدنا إلى حالة القلق والخوف. القصف والهجمات المتكررة تجعلنا نعيش في جو من الرعب والتوتر. تساءلت مراراً: اين العالم مما يجري لنا وكيف يسكت عن أن نعيش الخوف على عائلاتنا وغيرها من العائلات؟ كلما تمكنا التنفس بحرية، عاد الخوف والرعب ليسلب منا أبسط حقوقنا في العيش الآمن.


هذه الأحداث المتكررة أثرت فيّ كثيراً، وحولتني من شخص كان عاجزاً عن الشعور بالأمان إلى شخص بدأ يستعيد إحساسه بالأمان والثقة. بعد أن حُرمت في طفولتي من لغتي الأم، وجدت الفرصة لأعود لدراستها، وأعيش جزءاً من هويتي التي كدت أفقدها. لكن، للأسف، كلما بدأت أشعر بالاستقرار، جاءت هذه السياسات لتجبرني على العودة إلى ذكريات الطفولة التي عشتها تحت قيودٍ فرضت علينا، ولتذكرني بأن الحرية التي سعيت إليها ما زالت مُهددة. 


أصبحنا نعيش في منطقة يخيّم عليها القلق، حيث يعيدنا القصف والهجمات المتكررة إلى حالة من الخوف وعدم الأمان. فالواقع المرير يعيدنا دوماً إلى دائرة القلق التي تحرمنا من العيش بحرية، وتجعلنا نتساءل: إلى متى سنظل محرومين من حقنا في في السلام والاستقرار؟



إيفا فيراز،صحفية سورية.


٤ مشاهدات

أحدث منشورات

عرض الكل
bottom of page