top of page

كيف أصبحت أمّاً؟



تياما كورديللو، ناشطة سورية.




البوستر من تصميم سلافة حجازي.

ملاحظة: كُتبت هذه المقالة قبل سقوط نظام الأسد وانتصار الثورة وتحرير سوريا.


أكتب الآن بعد أن أيقظني كابوس وخانني النوم. لم أكن أعلم أن الكوابيس مؤلمة جسدياً، أشعر وكأنني في معركة بين جسدي الهش وأجفاني التي ترفرف ضد عقلي الذي لا يريد النوم. إنه الكابوس الثالث على التوالي خلال خمسة أيام.


يعود بي عقلي إلى تلك الليلة، الحادي عشر من آب/ أغسطس ٢٠١٢، حين كنت أبلغ من العمر ستة عشر عاماً فقط. بعد الاحتفال بعيد ميلاد أمي التاسع والأربعين. كيف تحولت من الطفلة المدللة (دلّوعة البابا) إلى طفلة ضائعة. يذكرني عقلي بتلك الليالي الطوال بجانب أمي المنكسرة، كيف كنت أبكي بصمت تحت الغطاء كي لا تسمعني، لأن "اللي فيها مكفيها" هكذا كنت أقول لنفسي. يكاد نفسي ينقطع وحلقي ينفجر.


أستذكر كيف كنت أنتظر أن أحلم بالشباب¹ لأسمع اصواتهم وأحارب ذاكرتي طوال هذه السنوات الاثني عشر لكي لا أنسى أصوات ضحكاتهم. ولكن بعد حين أصبحت أحلامي صامتة، أراهم يبتسمون لكن لا يتكلمون. أشعر وكأنني غيّبتهم قسراً مرة بعد مرة. أصبحت أحلامي كوابيس، أنا أسمع صوتي وأصوات الشخصيات الثانوية، بينما هم صامتون، لا أحد يسمع صراخهم لا في الحقيقة ولا حتى في الكوابيس. 


أمي، أعلم أنني كل ما تبقى لك، وأفهم خوفك غير الطبيعي، لكن أترينني؟ أنا هنا ما زلت معك، ما زلت على قيد الحياة يا أمي، أرجوك، انظري إلي!

مرّت سنتان، استيقظي يا أمي، أريد أن أرى ضحكتك أريدك أن تعتني بنفسك، لا أريد رؤية وجهك مكفهرّاً، ولا أريد رؤية الشيب الذي بدأ يأكل شعرك… أنا هنا يا ماما…


‎أعيش داخل عالم من الصمت والغموض، عالم صنعته الذكريات والألم. في الثامنة والعشرين من العمر، أجد نفسي مثقلة بالصور والأصوات التي لا تفارقني. أحمل جبالًا من الأحاسيس والمشاعر التي لا أستطيع الهرب منها، جبالًا تسكن داخلي، تزيد وزني وتثقل روحي. لماذا أنا غاضبة؟ لماذا أجدني أشتعل بنار لا تنطفئ؟ هل هذا الغضب هو ذاتي الحقيقية أم أنه تراكم لشيء أكبر، شيء لا أستطيع فهمه؟ أتساءل دومًا، من أنا حقًا؟ ومن هي "ذاتي" التي ضاعت في زوايا حياتي، بين تلك الفتاة التي كنتُها وتلك المرأة التي اضطررتُ لأن أكونها؟


‎كل شيء بدأ في ذلك اليوم، اليوم الذي لم يُشبه أيّ يوم آخر، إذ اختفى عالم طفولتي، وضاع شعور الأمان إلى الأبد. كان يوماً غريباً، ساكناً، لكنه مُرعب في صمته. رأيت أبي وأخي وخالي يختفون أمام عيني، بيد قوى غاشمة لا تعرف الرحمة. لم أستطع فعل شيء، شعرت بالعجز لا بل "كما أصفه لأمي" بجثة هامدة تثقل وزنها على أمي تجرها من غرفةٍ لأخرى منتظرات تسليط أسلحتهم على أي شيء آخر غيرنا. كأن الحياة قد خذلتني وتركتني وحدي، مجرد شاهدة عاجزة على اختطاف من أحب. عجزت حتى عن الصراخ؛ وكأن الواقع قد انهار فجأةً، ليتركني في حالة من التيه لم أخرج منها أبدا


‎في تلك اللحظة، أحسست أن كل شيء تغير. طفولتي انكسرت، وحياتي تحولت إلى شيء لا يشبهني؛ لم أعد طفلة، لكن لم أكن مستعدة لأكون أي شيء آخر. وجدت نفسي مسؤولة عن أمي، تلك المرأة التي كانت تتألم ولا تجد سبيلاً إلى الشفاء. فقدتْ أمي سندها، وأصبح عليّ أن أكون سندًا لها. أحمل همومها وآلامها، أحاول التخفيف عنها، لكن من كان هناك ليحمل عني؟ من كان ليستمع إلى معاناتي وأنا أتألم في صمت؟


‎مع مرور الأيام، لم أعد أفهم من أنا، أو من أصبحت. أعيش حياة لا أختار تفاصيلها، وأتبع مسارًا لم أختره. أصبحتُ كأنني أرتدي قناعًا، قناع امرأة أكبر سنًا منا، أكثر حكمةً وصبرًا، امرأة مليئة بالجراح غير المرئية، والذكريات التي لا يمكن أن تفر منها، لكن في داخلي، كنت أشعر دائمًا بفراغ، بطفلة ضائعة لم تجد بعد طريقها في هذا العالم


حين أختلي بنفسي، تتجدد ذكرياتي، وأشعر بصراع بيني وبين نفسي؛ أرى تلك الفتاة الصغيرة، وأتذكر أحلامي القديمة. قبل السادسة عشرة، كنت مراهقة تحلم بالمستقبل، وتعيش اللحظة بلا خوف، كنت أرى نفسي فتاة شجاعة، قوية، لا تخشى مواجهة العالم. حلمت بحياة مليئة بالمغامرات، بالتحديات، وبتحقيق الذات. كنت أتصور نفسي امرأة حرة، واثقة، تتحكم في حياتها، لكن كل شيء انهار في لحظة واحدة، تلك الأحلام تحطمت، وتلك الصورة الجميلة عن نفسي تحولت إلى شظايا متناثرة لا أستطيع جمعها. على الرغم من تخرجي ونجاحي لم أعد أشعر بطعم الفرح المكتمل، وكأن كل شيء ناقص. 


‎أحيانًا، في لحظات الهدوء، أرى أمامي فتاة أتمناها. أرى شابة مليئة بالقوة، تسير بخطوات ثابتة، وترفع رأسها بثقة، تواجه الصعاب بابتسامة وتحدٍ. كنت أرغب في أن أكون تلك الفتاة. أتخيل نفسي قوية، متماسكة، فتاة تستطيع رفع صوتها في وجه الظلم. كنت أطمح إلى أن أكون شخصًا يتحرر من قيود الخوف. لكنها لم تكن سوى صورة، حلم لم يتحقق، وواقع بعيد عن الحقيقة


‎أعيش بين الأمل والخوف، بين واقع فرض عليّ وحلم لم أتمكن من تحقيقه. أحيانًا، أضحك بأسىً على نفسي، على تلك الأحلام الضائعة، على ذلك الحلم الجميل الذي لم يتحقق. أصبحت امرأة تحمل داخلها جروحًا عميقة، مشاعر مختلطة بين الحزن والغضب والخوف. تحملت فوق طاقتي، حاولت أن أكون قوية، لكنني بقيت دائمًا تلك الفتاة الضائعة، التائهة في عالم من الصمت


‎أعيش بين الماضي الذي يطاردني والمستقبل الذي أخشاه. أحاول أن أعيش حياتي، أن أكون سعيدة، أن أبحث عن ذاتي. لكن، كيف أستطيع العثور عليها وأنا لم أكن أبدًا تلك الفتاة التي رغبت في أن أكونها؟ كيف أستطيع أن أجد نفسي في خضم هذا الصراع؟


‎تساؤلاتي لا تتوقف. هل هناك فرصة للقاء ذاتي التي ضاعت؟ هل هناك طريق للعودة إلى تلك الروح التي كنت أطمح إليها؟ هل هذه هي فعلاً أنا؟


¹والدي وأخي وخالي



تياما كورديللو، ناشطة سورية.



٣ مشاهدات

أحدث منشورات

عرض الكل
bottom of page