top of page

رسائل من الداخل إلى الخارج



زهراء درويش، ناشطة سورية في الشأن العام.


أيلول ٢٠٢٤


البوستر من تصميم رسامة الكاريكاتير أماني العلي.

ملاحظة: كُتبت هذه المقالة قبل سقوط نظام الأسد وانتصار الثورة وتحرير سوريا.


 نحن أبناء القهر، كيف تجرأنا على الفرح يوماً!

أتساءل وأنا أحاول الفصل بين الماضي والحاضر، وأنا أتذكر أنني لم أعرف يوماً كيف أفصل العام عن الخاص، وهو ما جعل عيش حياة مدنية طبيعية أمراً شبه مستحيل بالنسبة لي على الدوام.


الاختلافات بيني وبين المقاومة الشعبية التي لا تحصى، ولكني أحاول مناصرتها دون التخلي عن مبادئي. منذ متى صار بعضنا يقول: "بطلت الثورة تشبهني“؟ هل مطلوب من ثوار المرحلة أن يشبهونني؟ أم المطلوب مني كشخص ثوري أن أفهم المرحلة وأتماشى مع ظروف نشأتها؟

 

جربت الكتابة دون التطرق للحاضر، تارة لأن النص سيطول، وتارة لأنني أشعر أن دماغي لا يرضى بحصر ما نعرفه، يريد قول كل شيء أو الصمت، وهذا ما يعزز احتمالات موتي إما بسكتة قلبية من الصمت، أو تحت التعذيب من البوح.

ربما سألت أبي مرة أو خُيّل إلي أنني فعلت: هل نحن” فلسطينية"؟ لم أكن أجد أسبابا منطقية لتعلقي بالقضية بشكل شخصي، أقول: ربما هي بلاد الشام فحسب، وعواطفي لا تميز بين ما قبل سايكس بيكو وما بعدها، حتى عرفت أنني بنت الثورات، خلقت أرفض الظلم.

 

أتذكر "تجرأنا على الحلم ولن نندم على الكرامة“، تحدي السوريين بهذه العبارة يؤلم قلبي، كل ما يحاول الطغاة فعله هو أن يدفعونا للتفكير ألف مرة بالثمن قبل أن نثور عليهم لكسر قيودنا، وحولوا حياتنا جحيماً. يطمحون فقط أن نموت بصمت.

يختتم أمل دنقل قصيدته كلمات سبارتكوس الأخيرة بالقول: “علموه الانحناء" كوصية لطفل اقرأها وأبكي من اليأس، وأكمل: "معلق أنا على مشانق الصباح وجبهتي بالموت محنية… لأنني لم أحنها حية".

الحمد لله، لم أعرف يوماً شكل الحياة وأنا غير مبالية، وأفضل موقع المشنوق في القصيدة على موقع الذين يعبرون في الميدان مطرقين.


خمسة وعشرون عاماً في سوريا، وهو عمري بأكمل، ثلاثة عشر عاماً منها في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام.

اكتشف أن الروزناما الجديدة في رأسي أصبحت مبنية على تواريخ المصائب في عموم أنحاء البلاد، وأن البارانويا في مكان دائم الخطر تتحول على مر السنوات من شعور مؤقت إلى مرض مزمن ينتقل عبر الجينات، نورثه لأبنائنا. وصلت في سنوات ما إلى استبدال القفل الذي يفتح بالبصمة عن هاتفي الذكي، برمز مكتوب، وما أزال حتى اللحظة أكتب أشياء تحت عنوان "بس سافر بنشرهن“، وأتذكر بعدها أنني لا أستطيع المخاطرة بعائلتي حتى إن سافرت، إلى أن صرت أعدل الذكرى أو الخاطرة أو النص بما يتناسب مع درجة الحرية الفكرية المسموح بها في هذه المرحلة. حتى وإن أمسكوني متلبسة، يبقى لدي بصيص أمل في الكذب والنجاة.

 

في أوقات اخرى تحوَل المشرط الصغير والحاد الذي يبقى في حقيبتي أو في جيبي أو يدي إذا اشتد الخطر من سلاح أبيض للدفاع عن النفس إلى سلاح أبيض لقتل النفس قبل أن تهان. صرت أبحث عن النقطة الدقيقة في الرقبة التي تؤدي إلى الموت الحتمي إن قطعتها في الوقت المناسب، وأتأكد كل يوم أنني عندما وافقت على شعار (الموت ولا المذلة) كنت أعنيه حرفياً. حلاوة الروح يختلف مفهومها كلياً عندما نتحدث عن الثوار، وتحديداً الثوار بالفطرة؛ نحن نلقي أنفسنا إى التهلكة، ونفكر بابتكار أساليب للنجاة في الوقت نفسه.


الثورة… يعلو في رأسي صوت هتاف جماعي يقول (أم الشهيد… كلنا ولادك)، تشييع الشهداء ممن قضى منهم تحت التعذيب ومن لم يستلم ذويهم جثامينهم، تسريب أخبار المظاهرات والفيديوهات على قنوات التنسيقيات لمختلف المناطق على يوتيوب التي كنت أتابعها أولاً بأول هي والأهازيج الثورية والأغاني والأناشيد والشعارات الجديدة، حفظت كل فيديو بدون مبالغة، فقد كنت شبه محتجزة في البيت باستثناء المدرسة، ويحاول والداي بشتى الطرق حمايتي عبر إقناعي بأن لا شيء يحدث، باستثناء التوصيات المستمرة ألا أنقل أي حديث في البيت إلى الخارج، ولا أقول ماذا نشاهد على التلفاز، حتى بدأت أسأل بالحاح: بابا، نحن شو

 

ثلاثة عشر عاماً في سوريا بعد الخامس عشر من آذار/ مارس 2011 علمتني ألا أحكم على أي شيء قبل الغوص فيه، احتكاكنا في الغالب في المناطق الوسطى من سوريا مع الناجين من قصف أو اعتقال أو ذوي مغيبين قسراً عند مختلف الجهات جعلني أشهد عنصرية من كل الجوانب على بقيتها. دافعت باستماتة وتبادلت السباب والصراخ مع كل الأطراف دفاعاً عن الأطراف الأخرى ورفضاً للتعميم، بشكل يمنع الطرف الآخر من تخيلي أدافع (بالمبدأ عنه) مع أحد آخر. لاحقاً، تحول حنقي على النظام إلى سبب إضافي لأحاول إلغاء سبب وجوده حتى الآن، وهو الطائفية، ولأفعل عليّ أن أفهم، ولأفهم عليّ أن أشعر.


ساعدني على الفهم انخراطي في تجمعات يسارية وبين ناشطين اشتراكيين، ومعرفة الثمن "المضاعف أحياناً" الذي دفعه بعض أبناء الطائفة العلوية لمناصرتهم ثورة 2011 ومعتقلون سابقون منهم منذ أيام حزب العمل 1970 حتى ثمانينات القرن الماضي، فتحوّل تقبلي لهم وتصالحي معهم ورفض التعميم إلى تضامن، تحديداً بعد أن عرفت شبيحة وعملاء من باقي الطوائف، فعرفت أن مربط الفرس في مكان مختلف تماماً عن حيث ظننته. وتطوّر التقبل والتضامن إلى محبة، عندما عرفت البسطاء المناضلين منهم، من يعملون في الأرض مع شروق أول خيط صباح، يحبونها ويعرفون قيمتها، من يدرسون ويعملون كل يوم بجد لأن ليس لديهم طريق آخر نحو الحرية، الحرية من الضيق المادي في الدرجة الأولى ومن الوصاية ثانياً، أهالي أصدقاء أحباء الذين يشاركوننا كأس المتة وكأس العرق، النقاشات والكتب، سهرات العود والأغاني، إلا أنني للأسف، لوقت ليس ببعيد، بقيت أذكر نفسي بالقاعدة "انتبهي، بوقت الجد بكوَشو ع بعض“.


 من سكن الجبال مثلي يعرف أن الفرق بين سكان الجبل لا شيء، الكل يهبّل تيناً ويعصر الزيتون في المواسم، الكل في الجبال والكروم في الأيام المشمسة، الكل يشتري من نفس السوق والمعظم يتكلم بالقاف. الفرق بين غني وفقير هو الوحيد الذي يجعلك تميّز، مع اختلاف اللكنات، مدى ثقل حرف القاف واشياء بسيطة أخرى، أما عنّي، فقد نشأت وأنا أتحدث لهجة بيضاء و“بالألف بدل القاف" لا أعرف إن كان لذلك سبب في وقتها لكن ربما لأتوّه المتلقّي.حتى لا يصنفني من لهجتي، عرفت حجم الخسارة بعدما حاولت استرجاع لهجتي الأم على كبر ولم أستطع، إذ أملك اسماً يجعل كل من يراني يتساءل إن كان "نذراً" لأنه لا يتناسب دينياً مع مظهري بنظرهم، كنية موجودة في كل الطوائف، هويتي تحمل أسماء منطقتين، واحدة منهما مغضوب عليها والاخرى بين بين.


لا يوجد سوري واحد لم يخرج بطاقة هويته ويدقق فيها عندما بدأنا نقول: صار القتل على حسب الهوية، نتمعن فيها، من أين أبدو أكثر؟ هل أبدو عدواً بالنسبة لاولئك؟ بالطبع نعم. ستبدو عدواً دائماً بالنسبة لأحد ما، فالكل يخاف الكل، وبصعوبة تستطيع إقناع أحدهم أن بعض "الكل الآخر“خائفون مثله. لا أحد يعرف كيف أن السوريين كلهم بكل أطيافهم في رقابة على أنفسهم، الكل على حد سواء يعرفون أن الحيطان لها أذان، وهذا ما جعلنا نصدق أن هناك من المتضررين، أو غير المستفيدين إطلاقاً ممن يوافق فعلا على أفعالهم، لأنهم أجبروا أنفسهم على تصديق ذلك.


تعلّم السوري غالباً شم رائحة المخابرات والخوف من البسطاء، الذين ربما ليسوا بسطاء أو أفقر وأضعف من أن يقولوا:” لا“لعنصر مخابرات، فنخاف من النباشين، أصحاب البسطات المتنقلة منها ومن يفترشون الأرصفة، من بائع الغزلة والبوشار والبالونات، وكل كولبات البلد والجدران، ومن ظلّنا…

 

بعد التغريبة السورية الكبرى بدأت أشعر بفجوة في الذاكرة، لم يتبقَّ كثر ممن شهدوا معي تلك المرحلة، أصبحت سنين الحرب الكثيفة مرميّة في قعر العقل الباطن مع من رحلوا، فتتزاحم الأحداث والمشاهد في رأسي دفعة واحدة حين أطلبها.


كيف نحكي قصصاً مستمرة حتى اللحظة مع آلام الماضي لمن تمكنوا من وضع البلاد وأوجاعها خلف ظهورهم في محاولة للمضي قدماً؟ متى يمضي قدماً من ما زال في الداخل؟ أو من لا يريد الخروج أصلاً؟ هل هو مشمول في مخطط التشافي أم أنه خارج السياق؟ متى سنتمكن -نحن الصامتين قسراً هنا - من رواية قصصنا؟ كم قصة سورية لم ولن نتمكن من سماعها وقد رحل أصحابها عن عالمنا ربما وهم خائفون على أنفسهم أو ذويهم؟ وهل من أحد في العالم ما زال مهتماً بسماعنا؟ من بقوا في السجن الكبير ولم يغادروه ولا مرة، لم يتذوقوا طعم الكلام بلا خوف ولا مرة، كيف يكون طعم الكلام بلا خوف؟ وهل يستطيع من تذوقه أن يصفه لنا؟ ما طعم الحسرة في الخارج؟ وهل تختلف كلياً عن حسرة الداخل أم أنها تشبهها؟ ما رائحة لحظة النجاة؟ هل تشبه رائحة النجاة التي نشمها كل صباح داخل البلد؟


 لا اعرف كيف أفسّر قدرتي على الرحيل والوصول بأمان، ورغبتي في البقاء في الوقت نفسه، كيف اشرح استمتاعي بالسير في شوارع البلاد المحفّرة الموحلة، وحبي لكل ما فيها، وزهدي بما تبقى من الكوكب. سأخسر مصدر إلهامي حين أرحل، سأخسر ما أبقاني حية حتى اللحظة،أن المهمة التي يمكن أن أقوم بها من أجل سوريا التي نحب ونحلم هناك من يتولاها في الخارج، لدينا أصوات كثيرة، يقومون بعمل رائع. وأنا سأتولاها من الداخل، سأحرس سوريا التي نحب وأخبركم بما حدث ويحدث من هنا، كي لا ننفصل كلنا دفعة واحدة ويصبح استرجاعها مستحيلاً.


سأعضّ على جرح الفهم المفرط لما يدور حولي من هنا كما تعضون أنتم على جرح الحنين من هناك. فهم المرحلة للعمل عليها لاحقاً يتطلب عيش وتوثيق آلامها من كل الجوانب، وأنا اخترت هذا الجانب. قد نبدو من بعيد أفواهاً مكممة ووجوهاً بائسة تكدح برأسها مع ابتسامة صفراء فقط، والنظام الذي لم يوفّر وسيلة ليكسر عزيمتنا، وفشل ككلّ الطغاة الذين سبقوه، فنحن سنتجرأ على الحلم المرة القادمة مع أدوات كافية لتحقيقه.

كما أنني لن أترك والداي حتى يصبح بإمكان إخوتي العودة. لن أترك البلد حتى يصبح بإمكانكم العودة، سأبقى حتى تعودوا.



زهراء درويش، ناشطة سورية في الشأن العام.


٤ مشاهدات

أحدث منشورات

عرض الكل

المقالات المنشورة على الموقع تعبر عن رأي الكاتبة فقط ولا يتبناها المركز أو القائمين على العمل

©Adalaty 2023 

bottom of page