ليندا عثمان LL.M، محامية و ناشطة حقوق الإنسان.
في نوفمبر 2024، شهدت مدينة لاهاي حدثًا بارزًا جمع ناشطين وخبراء حقوقيين من مختلف أنحاء العالم في إطار المؤتمر الدولي الثاني للمجتمع المدني السوري حول الأسلحة الكيميائية. نظّم هذا الحدث مجموعة من منظمات المجتمع المدني السوري كاستجابة واضحة للإحباط العميق الذي نجم عن تقاعس المجتمع الدولي المستمر عن اتخاذ خطوات جادة لمحاسبة مرتكبي الجرائم الكيميائية في سوريا. كان المؤتمر منبرًا لإعلاء صوت الضحايا، والمطالبة بالعدالة، وإبراز الجهود المستمرة التي تبذلها منظمات المجتمع المدني السوري في مواجهة تحديات كبيرة تتعلق بالإفلات من العقاب وتعقيدات العدالة الدولية.
شهد المؤتمر مشاركة واسعة ضمت ممثلين عن منظمات حقوقية سورية ودولية، وناجين من الهجمات الكيميائية، وخبراء قانونيين وأكاديميين، وصحفيين ومهتمين بالشأن السوري. جاء هذا التنوع في الحضور ليعكس مدى خطورة الجرائم الكيميائية في سوريا وتأثيرها العميق على المستوى الإنساني والسياسي والقانوني. كان الهدف الأساسي من المؤتمر تعزيز الجهود الرامية إلى كشف الحقائق، توثيق الجرائم، والسعي نحو تحقيق العدالة الدولية، فضلاً عن الضغط لإيجاد آليات فعّالة لمنع تكرار استخدام الأسلحة الكيميائية ضد المدنيين.
بدأ المؤتمر بتقديم شهادات مؤثرة من ناجين من الهجمات الكيميائية، حيث عرضوا قصصًا شخصية تعكس بشاعة الجرائم المرتكبة. تحدث أحد الناجين عن تجربته مع الهجوم الكيميائي على بلدته، وشرح كيف كان يشعر بالاختناق وهو يحاول إنقاذ أسرته وجيرانه وسط ظروف مأساوية. أظهرت هذه الشهادات الأثر المدمر لهذه الهجمات على الضحايا وأسرهم، ليس فقط من حيث الخسائر البشرية الفادحة، ولكن أيضًا من حيث التأثيرات النفسية والاجتماعية التي تلازمهم لسنوات. كما كانت هذه الشهادات وسيلة لتسليط الضوء على الفشل الدولي في تقديم الإغاثة الفورية والمحاسبة المطلوبة، وهو ما أدى إلى شعور عميق بالخذلان لدى الضحايا والمجتمعات المتضررة.
من أبرز الجلسات التي شهدها المؤتمر كانت تلك المخصصة للبحث في الأبعاد القانونية المرتبطة بالجرائم الكيميائية. ناقش خبراء دوليون ومحامون متخصصون الأدوات القانونية المتاحة لمحاسبة الجناة، مع التركيز على مبدأ الولاية القضائية العالمية كوسيلة فعّالة لمحاكمة المسؤولين عن هذه الجرائم. أشار المتحدثون إلى النجاحات التي تحققت بالفعل في بعض الدول الأوروبية، مثل ألمانيا وفرنسا، حيث أُصدرت مذكرات توقيف وبدأت محاكمات تستند إلى أدلة جمعتها منظمات حقوقية سورية. ومع ذلك، أشار الخبراء إلى أن هذه الجهود تظل محدودة من حيث التأثير الجغرافي والنطاق القانوني، ما يتطلب إيجاد آليات دولية أكثر شمولاً وفعالية، مثل محكمة دولية مختصة بجرائم الأسلحة الكيميائية.
سلّط المؤتمر الضوء على العقبات السياسية التي تواجه العدالة في الملف السوري، حيث أوضح المتحدثون أن الانقسامات الدولية في مجلس الأمن والفيتو المتكرر من قبل الدول الكبرى مثل روسيا والصين أعاقت أي محاولات لاتخاذ خطوات حاسمة. أشار المشاركون إلى القرارات الأممية مثل 2118 في أيلول/سبتمبر 2013، الذي كان يهدف إلى إنهاء استخدام الأسلحة الكيميائية في سوريا، وكيف لم يتم تنفيذه بشكل فعال، وكيف لم يُنفذ القرار بفعالية، مما سمح باستمرار الهجمات الكيميائية وتصاعدها بعد اعتماده. أشار الخبراء إلى أن هذا الفشل لم يكن مجرد نتيجة للانقسامات السياسية، بل يعكس أيضًا غياب الإرادة الدولية الجادة في التعامل مع هذه الجرائم.
تناولت جلسة أخرى الجهود التي تقودها منظمات المجتمع المدني السوري في توثيق الجرائم الكيميائية وبناء قضايا قانونية قوية يمكن استخدامها أمام المحاكم الدولية والوطنية. شرح المشاركون أهمية جمع الأدلة بشكل منهجي، معتمدين على معايير دولية صارمة لضمان قبولها في الإجراءات القانونية. وركزت المناقشات على التحديات التي تواجه هذه الجهود، مثل صعوبة الوصول إلى المناطق المستهدفة بسبب استمرار النزاع، والخطر الذي يواجهه فرق التوثيق على الأرض. ورغم هذه التحديات، أظهر المشاركون التزامًا قويًا بمواصلة العمل لضمان أن تكون الجرائم موثقة بشكل لا يترك مجالًا للإنكار.
خصص المؤتمر جزءًا كبيرًا من النقاش للحديث عن الآثار النفسية والاجتماعية التي خلفتها الهجمات الكيميائية على الضحايا ومجتمعاتهم. قدم ناجون وخبراء رؤى معمقة حول الصدمات النفسية التي يعاني منها الضحايا، بما في ذلك اضطرابات ما بعد الصدمة والشعور بالذنب والخوف الدائم من تكرار الهجمات. وأشار المشاركون إلى أن هذه الصدمات لا تؤثر فقط على الأفراد، بل تمتد إلى تدمير نسيج المجتمعات بأكملها، مما يتطلب استجابات شاملة تتضمن تقديم الدعم النفسي والاجتماعي كجزء لا يتجزأ من الجهود القانونية.
كانت الدعوة إلى إنشاء محكمة دولية خاصة بالجرائم الكيميائية في سوريا من بين أبرز المحاور التي حظيت باهتمام كبير خلال المؤتمر. ناقش المشاركون أهمية إنشاء هذه المحكمة كآلية مستقلة تُعنى بمحاسبة مرتكبي الجرائم الكيميائية، مؤكدين أن ذلك سيعزز جهود العدالة الدولية ويوفر منبرًا لتوثيق الجرائم بشكل دقيق ومنهجي. أشار الخبراء إلى أن هذه المحكمة يمكن أن تستفيد من التجارب السابقة للمحاكم الدولية، مثل محكمتي رواندا ويوغوسلافيا، التي حققت نتائج مهمة رغم التحديات السياسية.
اختُتم المؤتمر بجلسة ختامية مؤثرة حملت رسالة تضامن قوية مع ضحايا الجرائم الكيميائية ومع جميع السوريين الذين عانوا من ويلات الحرب. أكد المشاركون التزامهم بمواصلة النضال من أجل تحقيق العدالة، معربين عن أملهم في أن تكون الجهود المشتركة بين منظمات المجتمع المدني والخبراء الدوليين قادرة على إحداث تغيير حقيقي. كما دعا المؤتمر إلى استمرار الضغط على المجتمع الدولي لضمان عدم تكرار الجرائم الكيميائية في سوريا أو أي مكان آخر في العالم.
رغم التحديات الهائلة التي تواجهها منظمات المجتمع المدني السوري، برز خلال المؤتمر تصميم لا يتزعزع على مواصلة العمل الدؤوب من أجل تحقيق العدالة. هذه الجهود تُجسد قوة الإرادة والإيمان العميق بحقوق الإنسان، ما يجعل هذا الحدث علامة فارقة في المسار الطويل نحو محاسبة الجناة وضمان العدالة للضحايا. وكما أُعلن في ختام المؤتمر: "طريق العدالة طويل، لكن كل خطوة نخطوها تقربنا من الحقيقة. نحن لا نكافح فقط من أجل سوريا، بل من أجل إنسانية لا تتسامح مع الإفلات من العقاب".
ليندا عثمان LL.M، محامية و ناشطة حقوق الإنسان.