أمل مصطفى محمود: مهندسة و ناشطة مدنية.
تعلمت منذ طفولتي أن أخفض نظري وألا أنظر مباشرة في عينيّ محدّثي. تلك كانت استجابة التعلم التي تم تدريبي عليها طوال ثمانية عشرعاماً، بدءاً من مرحلة الطفولة، مروراً بالمراهقة، حتى اكتمال شخصيتي كفتاة (جميلة).
منذ أن بدأ وعيي الأنثوي بالتشكّل، تعلّمتُ أنه يجب أن أكون حذرة! لم أكن أعي ما هو الخطر الذي يجب أن أحذر منه، لكن ما أتقنته هو أن ألا أكون عفوية أبداً؛ فيجب أن أخفي ضحكتي وأقيد مزاحي وأبتعد خطوات عن محدثي، وبالتأكيد ألا أنظر في عينيه.
اختزنت ذاكرتي ما يكفي من المواقف التي روتها لي أمي عن نساء أخريات كنّ ضحايا للرجال، والتي رسّخت في ذهني صورتي عن نفسي كامرأة في مجتمع ذكوري، يعتبر الذكر فيه نفسه أقوى ولديه من الأدلة التاريخية والدينية ما يكفي ليستلم زمام التحكّم بالمرأة، وبالتالي قد أكون إحدى هؤلاء الضحايا إن لم ألتزم بما رُسم لي من قواعد وضوابط، هي الأسلم والأكثر أماناً لي ولمن حولي.
بدأت المواقف منذ الطفولة، عندما كنت طفلة في الثامنة من عمري، وقد نهرت عمّي الذي يحبني حبّاً لم أفهمه، فكلّما جاء يزورنا كان عليّ أن أعاني من عضّاته على خدودي التي تجعله يضحك وتجعلني أبكي!
توقف عمي عن عضّي عندما نهرته ودعوت عليه: "يبعتلك حمى!“ أعلنت رفضي لحبه العنيف وطريقته التي لا تحترم جسدي ولا تلقي بالاً للألم الذي يسببه لي، لكني تلقيت ملاحظة من أمي مفادها أنّ سلوكي غير مقبول تجاه عمّي، ذلك لأنه يحبّني!
كان وجه أمي المرآة التي اختبر فيها ما إذا كان رد فعلي مقبولاً، أو أن علي أن لا أعترض على هذاالسلوك أو ذاك. بقيت ملاحظات أمي تزداد تواتراً وتعمقاً، وبقيت تمعن في إخافتي من الجنس الآخر، فالرجال وحوش تنقض علينا، وخاصة على الصغيرات منّا!
في ذات الوقت الذي كنت أتعلم فيه الحذر من الحركة بين الناس بحرّيّة، كانت أمي تبذل جهدها لتحميني وأخواتي من بشاعة المجتمع وظلم الرجال، وكانت تربّينا على قصص الاحترام والرقي والنبل الذي يتوّج رأس الأنثى منا، فهو بحسب أمي ”رأس مالها في الحياة“، فلا كلماتٍ نابية ولاصوتاً عالياً ولا لباساً غير محتشم.
وبحسب ما تعلمت من أمي، التي كانت معلمة، آمنت أن المدرسة ساحة للصلاة، لا يقترف فيها أحد ذنباً، وهي مكان محرّم على ذوي الشهوات الأرضية. ولأني كنت من المتفوقات في مادة الرياضيات، كنت أتابع بشغف كل المسائل التي يتحدّانا بها أستاذ الرياضيات، فيتملّكني الحماس لأدخل في منافسة مع زميلاتي للحصول على جائزة التحدي، ودائماً ما كنت فخورة بإنجازي، فالرياضيات هي ساحة لعبي منذ الطفولة.
انتظرت أستاذ الرياضيات في حرم المدرسة، وكان عمري حينها 16 عاماً تقريباً، قدّمت له حلّ المسألة، وكنت في غاية الحماس وأنا أشرح له كيف وصلت إلى الحل، وأنا أشير بقلمي وألوح بيدي حتى علا صوتي وأشرقت عيناي، ودون انتباه مني خالفت وصية أمي ونظرت في عينيه… لأجد أستاذي - الذي ظننته محترماً ملتزماً - قد جمد دون حراك وراح يلاحق عينيّ بعينيه، ولم أفهم ما به! قفزت إلى رأسي جمع تحذيرات أمي من التعامل مع الرجال بعفوية وتلقائية، فشعرت أنه يجب علي الهرب!
هل كان ذلك ليحدث معي لو أني كنت شاباً؟! طبعاً لا! بل كنت سأتابع التعمق في المسائل والبحث عن تحدّيات أقوى، ولم أكن لأخاف من أستاذي وهو رجل مثلي؟ وكان هو الأستاذ بعينه سيحترمني و سيراني نداً له، أحمل عقلاً وقلماً، وقد أصل إلى ما لم يصله هو! لكني أنثى ولا يليق بي التفوق في مادة يحترفها الرجال فقط!
ما قصة أساتذة الرياضيات معي!
عام 1989 تابعت في مدرسة ابن خلدون دروساً صيفية للتحضير للبكالوريا، وكان جميع الأساتذة من موجّهي المواد الأساسية في دمشق، أساتذة قديرين أصغرهم في أواخر الخمسينيات من عمره. وقصتي حينها كانت مع أستاذٍ قديرٍ! شابَ وغابَ كثير من شعر رأسه، لكن وقاحته لم تغب يومها! وكعادتي في مسائل الرياضيات الصعبة على أقراني، ذهبت إليه بمسألة تحليل رياضي ليست سهلة، وإذا به يترك الدفتر على الطاولة ليرفع عينيه فيّ ويقول: "شو هالعيون! شو هالجمال والبياض! تعي اقعدي جنبي!" وأشار إلى كرسي بجانبه! كانت من أقسى مواقف التحرش التي تعرضت لها، ولم تكن الأخيرة!
هنا عدت إلى أمي بقصّة أخرى، وأنا أبكي وأسألها: هل كان يجب أن أولد صبياً حتى أستمتع بدراستي للرياضيات ولا أتعرض لمثل هذه المواقف؟! أثنت أمي ثانية على هروبي دون مواجهة معه، وأقنعتني أنه لن يصدقني أحد، فهو أستاذ قدير وأنا طالبة مجهولة.
لاحقاً، دخلت كلية الهندسة أحمل كل ما يلزم من مهارات لأهرب من الوحوش، وما عدت أرفع عينيّ عن الأرض، كنت أتواصل مع الجميع - وبمن فيهم أساتذتي - بما هو ضروري ودون النظر في أعينهم.
تخرّجتُ وعملت في مهنتي التي أحبها، وكنت أقصد نقابة المهندسين لأتابع عملية التدقيق والترخيص لمخططات المشاريع التي درستها ورسمتها. كان الدخول إلى القاعة الكبيرة في بناء النقابة، والتي تعج بالمهندسين من كل التخصصات والخلفيات الاجتماعية والبيئية، يشعرني بالاشمئزاز، فهنا يظن المرءأننا في مجتمع مثقف واعٍ، لكني كثيراً ما تعرّضت هناك إلى تلك النظرات المقرفة التي تضطرني للهروب سريعا بعد إنجاز ما يلزم. وأعتذر هنا من جميع المهندسين المحترمين الذين أقدرهم لأخلاقهم وأدبهم.
لكن السؤال بقي يرن في رأسي: لو أني كنت مهندساً، لكنت أنشأت شبكة من العلاقات بين المهندسين أمثالي، وحصلت على مكانة مرموقة، وأنجزت من المشاريع ما يرضي طموحي وقدراتي، لكن للأسف بقي مجتمعي يراني مجرد أنثى! حتى وإن درست الهندسة كالرجال!
مع بلوغي سن الأربعين بدأت الثورة في سوريا، وقد ظننت أني تحررت من القيود الملقاة على الشابات، فأنا الآن امرأة متزوجة وأم لأربعة أطفال، أي أني في (حماية رجل)!
كنت قد نشطت بقوة في التواصل عبر الفايسبوك مع جميع المناطق السورية الثائرة التي استطعت الوصول إليها عبر حسابي "الحركي"، وكان من بينهن تواصلت معهم شاب يتوارى في المزارع لأنه ملاحق، ولحسن حظي أن زوجي تابع معي قصة ذاك الشاب، وإلا لكانت النتيجة سيئة جدا على أسرتي!
في ذاك الوقت كنا متعاطفين معه لأن المجزرة التي تعرضوا لها لم تكن قد جفت دماؤها بعد! ظننت من حديثه أنه يماثلني في ألمي على الشهداء، ولكنه كان في واد آخر! وكنت أظن أنه يلتزم بما وعدني به، أني تماماً في مكانة خالته، وكان يناديني خالة! لكن بعد فترة ليست بطويلة بدأت أشعر بأن تصرفاته لم تعد طبيعية، ولم أعد بمكانة خالته، فواجهته وطلبت منه التوقّف عن التواصل معي!
أصبح بعدها عدوانياً! يهدّد ويتوعد بأنه ”سيمرغ سمعتي في الطين“، ليجعل الثورة تلفظني وتتبرأ مني. فانسحبت شيئاً فشيئاً من ساحة العمل الثوري، بعد أن ضاقت بي الثورة بما رحبت، فعلى ما يبدو أني كنت أحلم بما لا يمكن تحقيقه في حياة واحدة، فمجتمعنا يغرق في سواد مستنقع الذكورة والأنوثة، بعيداً عن آفاق الإنسانية الرحبة، ويلزمنا من الزمن الكثير حتى نرى نور العدل بيننا.
ما تزال الصراعات قائمة في ذاتي، فأنا أحب أن أكون امرأة، لكني أكره أن يتم التعامل معي وفق قالب جامد يخنقني في مسارات محددة لا يسمح لي الخروج عنها! أشارك الآن جميع أفكاري وخبراتي ومعاناتي مع بناتي اللواتي أصبحن شابات، فأقدم كل ما لدي دون تجميل، عليّ أجد معهن طريقاً للخلاص من التشوهات التي ينتجها مجتمع غير عادل مع النساء عبر أجيال الأمهات وبناتهن وبنات بناتهن... إلى ما لا نهاية!
أمل مصطفى محمود.