سليمى الحمصي: صحفية سورية.
بكل براءة، وبصدرّيتي البنيّة والفولار وربطة الشعر الجميلة التي كانت أمي تتفنن في ابتكارها كلّ صباح، خرجت من مدرستي ”حيدر قيس“ في حيّ القصور[1]، في حمص بعد انتهاء الدوام الرسمي، لأعود مشياً على الأقدام لبيتنا مع صديقاتي كما جرت العادة.
أرى وجهاً يتبعني، أحسبه مألوفاً، "آه هذا عمو منصور؟ ياي سَأدلُّه على منزلنا، أشعر أنّي كبيرة!" هذا ما جال في خاطري وأنا طفلة في السابعة. كنت سعيدة وودّعت صديقتي عند مفترق الشارع، عندما اقتربت من باب بنايتنا، شعرت بذلك الرجل يمسك بي، يضع يده على فمي، ويتحسس صدريّتي وبنطالي. عقلي كان يقول: ما هذا! لم يستطع تحليل الأمر، كان الموقف أكبر مني! تساءلت: هل يجب أن أصرخ؟ لا أستطيع إنه يحكم قبضته على فمي… وبلحظة أفلت يده وبدأْتُ بالصراخ، ليهربَ بعدها وأصعدَ أنا إلى منزلنا الذي يصدح منه صوت ماكينة الكبّة الكهربائية. طرقت الباب بخوف، فتحت أمي وقالت: ما بك!؟ لأجيبها أنني خائفة، أو لم أرد، لم أعد أذكر! أمي التي تزوجت في عمر ال27، في سن"متأخرة" كما يصفها البعض، كانت صديقتي الوحيدة وستبقى. خجلت أن أخبرها، لا أدري لماذا، لكن وعياً داخلياً حدثني ألّا أفعل.
2014 في شهر شباط/ فبراير، أتحسس الكلبشات الباردة الثقيلة في يديّ، مرتدية "المانطو" البيج والحجاب السكّري في فرع الأمن السياسي في طرطوس. سألني المهندس الذي كان يفتّش هاتفي كوني "إرهابية": "أنتي بنت؟" أجبته: "نعم بنت! شو شايفني صبي؟" وكأنني لم أتعلّم أن أخفي براءتي يوماً. ليتكرر موقفٌ مشابه مع أحد الحرّاس في فرع الأمن السياسي/ الفيحاء بدمشق، عندما أخبرونا أن لدينا فرصة للاستحمام بعد مستنقع القمل الذي كنّا نبيت فيه على مدار شهرين و15 يوماً، بعد أن أحضر لنا ملابس داخلية نسائية وبدأ بتحسّسها، وأنا أنظر إلى عينيه التي تشبه عيون الشياطين.
بعد عدة سنوات، هربنا من سوريا إلى لبنان، وتكررت نفس الحكاية، في فان طرابلس [2] - حلبا، أصعد بعد يوم طويل من تصوير تقرير للتلفزيون من أحد مخيمات السوريين في شمال لبنان، أحمل الترايبود الذي له استخدامات متعددة غيرالتصوير، كسلاح أبعد به المتحرشين في حال اقتربوا، وحقيبة مليئة بمعدات التصوير، وأجلس بالقرب من النافذة في مقعد خالٍ من ركاب آخرين.
"آه في عسكري جنب الشوفير، أكيد ما حيصير لي مشاكل عالطريق.." أقول لنفسي، قامعة كل القصص القافزة في رأسي مما يروى عن هذه الفانات، ليصعد شاب ويترك كل المقاعد الخالية ويقرر الجلوس بجانبي، والاقتراب قدر الإمكان منّي. بتقنية معتادة، نضع نحن النساء الحقائب حاجزاً يمنع الرجال من الالتصاق بنا، لكن ذلك لم يمنعه من الاقتراب، مجدداً ومجدداً ومجدداً. "بدّك أطلع من الشبّاك؟" سألته وأنا أحاول تهدئة أعصابي ويداي اللتان كانتا ترقصان بدون توقف، "عفواً؟ شو وجعك؟" قال لي محاولاً نكران الأمر. "ما شايف حالك عم تلزق فيني؟" "مين بدو يطلع فيكي أنتِ؟ عهالوجه المقرف!" وهنا بدأت بالصراخ عليه، حتى أحسّ سائق الفان بالأمر وأخبرني أن أصمت، أما العسكري فكأنه كان في غيبوبة. بعد عدة محاولات من الشاب لضربي بعد أن بدأت الصراخ، قلت له: نزلني! رح يقعد بحضني وبدك أسكت له؟ " فرد " نزلها أنا بدفع الأجرة عنها، تفه!".
نزلت، لكن لم أعد أنا نفسي قبل أن أصعد. عدت للمنزل ودخلتُ في صمت عدة أيام على أثر الصدمة التي جعلتني لا أستقلّ فانات حلبا لوحدي بعدها.
وفي مشهد آخر، دون ترتيب زمني ، أرتدي ملابسي على عجل، حجابي الأبيض، تنورة كحليّة طويلة وقميصاً، لأخرج للمشي بالقرب من برج إيفل الشهير في باريس، ترفيهاَ عن نفسي بعد يوم طويل ووحدة قاتلة، قد يشعر بها الجميع عند وصوله إلى أوروبا. قطعت حي الكانزيم ووصلت للبرج، بدأت أتأمل لمعان الضوء على نهر السّين، وبدون أن أشعر، انتبهت لشاب يتبعني، كان يتحدث العربية وأصرّ على اللحاق بي لمدة ربع ساعة وهو يقول: "السلام عليكم! السلام عليكم!" محاولاً وضع يده عليّ والتقرب منّي، لأصرخ بعدها ببضع كلمات فرنسية كنتُ تعلمتها مسبقاً بالصدفة، ليهرب بعدها ويجعلني أعود إلى منزلي معكّرة الصفو.
هل يرتاد المتحرشون نادياً واحداً؟! لماذا لم يتغيّر شيء رغم تغير الأمكنة والأزمنة ؟! عندما أحاول تذكر المرّات التي تمّ التحرش بها بي، في شارع الدبلان، بالقرب من المسجد الأموي، في المعتقل، في فانات طرابلس- بيروت، في حارات الفاتح في إسطنبول، في شوارع باريس… لا أستطيع عدّ المرات التي تعرضت فيها للتحرش. هل أذكر كل المرات؟ كلهاحقاّ؟ هل تعمّدت نسيانها؟ والسؤال الأهم: لماذا أخجلُ عند كتابة هذا المقال؟ في حين، يجب على كل الذين تحرّشوا وفكرّوا بالتحرش أن يخجلوا؟
منذ فترة طويلة لم أعد أهنأ ما دام هنالك رجال يمشون بمحاذاتي، أراقب وجوههم، حركاتهم، تصرفاتهم، ولحظتهم الأولى للإقدام على التحرش. كما بنات جيلي في سوريا، لم يكن مقبولاً ارتداء الشابات للنظارات الشمسية، خوفاً من البصبصة على الشبان، لكن هذا الأمر تحوّل تدريجياً بالنسبة لي إلى وسيلة دفاع أحمي بها نفسي عندما أقرأ انعكاساتهم وحركاتهم، متوقعة اللحظة التي سيقدمون بها على التحرّش، فابتعد.
في أحد المرات ، كنت أقرأ بعض التعليقات في الفيسبوك، على قضية تحرش حصلت في مصر، وردود أفعال الناس عليها، لأقرأ تعليقاً جعلني أفكّر بعمق بكل حالات التحرش التي حصلت لي، وتلك سمعتها على لسان صديقاتي. كتب أحدهم "أنا بلطش البنات اللي لبسها مش ظابط حتى تعتبر وتظبط لبسها، أنا بكده بخليها تفهم إنها غلطانة"!، وكأنه يستخدم التحرّش كأسلوب "تهذيب" للنساء، وكأنه هو المسؤول عنهنّ جميعاً، ومن هنا تأتي فكرة الوصاية على النساء. الوصاية، هذه الكلمة التي تلخّص من وجهة نظري أسلوب الرجال في مجتمعاتنا في التعامل مع النساء؛ تجاوز الحدود الشخصية معهنّ، التعدي على مساحتهن الشخصية، التحدث عن ملابسهنّ، ثم يأتي التحرش لتشعر النساء وكأنه قد تمّت تعريتهن، وبمعنى آخر: كأن عيون المتحرش تحرق الملابس والحدود والأمان.
قررت منذ فترة قصيرة، تغيير صورتي الشخصية على الفايسبوك، واستخدام صورة فتاة في لوحة رسّام، تجلس الفتاة على كرسيّ مرتدية معطفاً بنّياً شتوياً، ويداها تجدّلان خصلات شعرها، لكنّ المميز في هذه اللوحة، أنها تحمل معالم وجهي، لذلك كنت سعيدة بها، وكأن الرسّام قام فعلاً برسمي شخصيّاً. انهالت عليّ التعليقات من الرجال، يستفسرون لماذا خلعت الحجاب، بماذا ألمّح بهكذا صورة؟ وآخر كان لديه نصيب من دخول مساحتي الشخصية وسؤالي عبرالماسنجر "لماذا يا سليمى؟ لماذا خلعتِ الحجاب؟" مع أنه ليس لي نيّة لخلع الحجاب إطلاقاً، لكن فكرة الوصاية التي يمتلكها الرجال، خاصة مع الشخصيات العامة، هي أشبه باستباحة الحدود: "ليش حاطة مناكير، ليش حاطة فلتر، ليكي كيف تيابها.. ليش ما شايلة شعر جسمك.." إلى ما هنالك من تعليقات قد تطال النساء في الفضاء العام.
لا يوجد مرحلة عمرية يمكن للمرأة خلالها الشعور أنها آمنة من التحرش، أجساد النساء مستهدفة في كل مراحل العمر، يجب أن تكون يقظة وواعية، عندما تمشي وحدها أو في مكان لم تعتده. وهذه الفكرة التي تعني تشتيت الانتباه عن جمال المشهد أو الاستمتاع بالنزهة على سبيل المثال، كما لو كنا في لعبة ماريو، نحاول نحن النساء قدر الإمكان الابتعاد عن الوحش، من رصيف لآخر أو من زاوية لأخرى.
"ما كل الرجال هيك"، جملة سيقولها رجل شعر بالاستهداف بهذا المقال، أو بحديث النساء عن التحرش من قِبل الرجال. نحن نعرف يا عزيزي القارئ أنه "ما كل الرجال هيك"، لكن هذه فرصة لتنضم معنا وتحارب الشيء الذي كنا نحاربه وحدنا لأجيال، وللأسف لا نية لمن يمارسونه بالاستسلام. تخيّل معي عدم وجود قانون، عدم وجود رادع ديني، أو أخلاقي كما قد تحب أن تصنفه… كيف سيكون الحال بالنسبة للأنثى؟! تخيلت المشهد الذي يشعرنا بأننا نعيش في حقبة الإنسان البدائي؟ تماماً أنا ومعظم النساء، نشعر بكلّ مرّة يتم فيها التحرش بنا، أننا نعيش في عصر الكهوف والغريزة الحيوانية. لذلك هذه دعوة حقيقية للرجال لإظهار موقفهم ضد التحرش بالنساء، دعوة لعدالة حقيقة للنساء, دعوة مفتوحة الزمان والمكان.
البراءة التي بدأت بها، أصبحت في خبر كان، فحين أمشي اليوم، خاصة مع صديقاتي، أكون أنا الشخص الذي يظل يراقب وينبّه ويحذّر من تحرشّ قادم. أودّ كثيراً الاستمتاع بالمشهد دونما التركيز على محاولات التحرش، لكن هنالك شيء ما، كُسر في داخلي، لذلك أنا أكتب هذا المقال باسم مستعار. لكن هل تعلم عزيزي القارئ لماذا؟ خوفاً من التحرش الإلكتروني بي، والتشويه بسمعتي على أساس ما كتبته هنا من تفاصيل حساسة، فأنا منذ شرعت بالكتابة عن هذاالموضوع، أتخيل أن هنالك أحد ما، معتوه، سيقوم بقراءة هذا المقال والبحث عنّي وإرسال رسائل ذات محتوى غير لائق، وسيزيد معاناتي النفسية من جراء مواقف التحرش التي تعرضت و"سأتعرض" لها، لذلك إن عرفت من أنا بعد كل التفاصيل التي ذكرتها، قدّرْ تضحيتي بعدم ذكر اسمي، وإن لم تعرفني، فهذه قصتي، وربما قصة فتيات فقدن براءتهن ولمم يتجرَّأْن على البوح بعد.
[1] حي القصور : مدينة في محافظة حمص، تقع في وسط سورية .
[2] مدينة لبنانية تقع في شمال لبنان
سليمى الحمصي.