شذا ميشيل كيلو، قاضية سابقة وناشطة حقوقية.
في يوم رمادي كئيب من أيام شتاء عام 2012 وصلت باكرًا إلى مكان عملي في قصر العدل لريف دمشق الكائن في منطقة الزبلطاني في دمشق، وما كان يطلق عليه تجاوزًا "قصر العدل" هو بناء طابقي قديم كان يستخدم في الأصل مستودعًا لبضائع سوق الهال المجاور للقصر المنيف. لفت نظري وجود عدد ليس بقليل من الأضابير¹ ذات الغلاف الورقي بني اللون مرمية في ركن من أركان المرأب، سألت أبا أمجد السائق الشهم من داريا بعد أن ألقيت عليه تحية الصباح: "ليش الأضابير مرمية هون يا أبو أمجد؟" أجابني: "هدول للإتلاف أستاذة". شكرته ودخلت القصر، وأنا أشق طريقي بين جموع الناس والشرطة على الدرج الضيق لأصل إلى مكتبي في الطابق الثالث.
استقبلني الحاجب محمد، الشاب المهذب اللطيف، بابتسامته المعهودة، رتبت أوراقي و أضابيري، وقررت أن انغمس في العمل لمحاولة طرد شعور ثقيل بالحزن يهيمن على نفسي. وبينما كنت مستغرقة في قراءة أحد الملفات، سمعت صوتًا مرتبكًا يقول وكأن صاحبه يحدث نفسه: "لازم يخلوا سبيله... لازم يطلعوه دغري" رفعت رأسي بسرعة لأجد أمامي شاباً في العشرينيات من عمره، طويل القامة، جميل الوجه، ذا عينين خضراوين واسعتين مليئتين بالخوف، وكان يحمل بين يديه إضبارة ذات غلاف ورقي بني اللون. استغربت ذلك كون هذه الأضابير خاصة بالمحاكم ولا يجوز أن ينقلها أحد بهذه الطريقة، فجأة قفزت إلى ذهني الأضابير المرمية على أرض المرأب، سألته وأنا أحاول أن أفهم ما يحدث: مين هني؟ ومين لازم يطلعوا؟ وليش حامل هالإضبارة؟" فوضع الإضبارة أمامي، وقال: "هي أوراقه، لازم يطلع، عم يضربوه على راسه عم يضربوه على راسه"، وأحاط رأسه بذراعيه محاولاً أخذ وضعية من يريد تأمين أكبر قدر من الحماية لرأسه من الضربات المفترضة، بعد أن ثنى جسده الطويل النحيل.
تجمّدت في مكاني لا أدري ماذا أفعل، كان عقلي يحاول أن يستوعب أن ذاك الشاب أتى ليقدم إخلاء سبيل لنفسه من مكان لا يمكن أن يخرج منه أحد سالمًا هذا إن خرج أصلًا، مكان خرج منه الشاب بجسده، وبقيت روحه عالقة فيه عاجزة عن نسيان ما تعرضت له من عذاب وامتهان. فجأة قُرِعَ الباب، كان محمداً، قال لي وعيناه المستغربتان ترمقان الشاب الذي كان ما يزال ممسكاً برأسه، وهو جاث على الأرض: "أستاذة في ست عم تدور على ابنها عم تقول أنه شب طويل و... و..."، قاطعته لأوفر عليه عناء البحث عن مرادف لكلمة (فاقد لعقله) طالبة منه أن يدخلها فوراً.
اندفعت سيدة لها نفس عيني ابنها الخضراوين، لكنهما وبدلاً من الذعر كانتا مليئتين بالقهر، فكرت بقدرة العيون على عكس المشاعر، لا سيما عندما تكون واسعة. توجّهت نحو ابنها تساعده على النهوض، واجلسته وهدّأت من روعه، بعدها نظرت إليّ وقالت: "لقد كان في سنته الأخيرة في كلية الطب قبل أن..." وتوقفت عن الكلام. قلت لها بصوت متهدّج: "إن شاء الله بطيب وبيتخرج".
أحسست بسخف ما نطقت به، وتحولت كلمات القهر الحبيسة في حلق المرأة إلى سيل من الدموع وهي تقول لي: "منذ شهرين أوقفنا حاجز وبعد مشاهدة هوياتنا وضعوا زوجي وولديّ الاثنين في سيارة واخذوهم رغم بكائي وصراخي، أعادوا لي ابني الأكبر منذ شهر بعد أن فقد عقله، وبقي ابني ذا الخمسة عشرة عاماً وزوجي لديهم. أحضر إلى هنا كل يوم، وأنتظر في المرأب لأرى إذا كانت حافلة المعتقلين (الموقوفين ²) تضم زوجي وابني الصغير، أريد فقط أن أطمئن على ابني، فقط أن أطمئن أنه ما يزال على قيد الحياة ولو كان مصيره كمصير شقيقه".
عند عودتي إلى المنزل ركض ولداي الصغيران، وهما فرحين للقائي، فلم أستطع الابتسام، حدّقت في وجهيهما البريئين وخيل إلي لوهلة أن لكليهما عيوناً واسعة خضراء مليئة بالخوف، فحضنتها بقوه، ودموعي تنهمر بصمت.
"عم ندللهم"
في طريقي إلى عملي صباحاً كنت أفكر بما أخبرني به زميلي البارحة بعد أن عاد وهو متجهم الوجه من مهمة تم استدعاؤه إليها على عجل، للتوقيع على ضبوط وفاة لعدة (موقوفين) في الأفرع الأمنية، حيث حصر الطبيب الشرعي أسباب الوفاة بين السكتات الدماغية والقلبية والقفز من مكان شاهق!
رغم أن معظم المتوفين (المقتولين) كانوا أطفالاً وشباناً، وأنه اضطر التوقيع صاغراً . وتذكرت كذلك ما أخبرتني به زميلتي من أن جارهم، وبعد أن رفض التوقيع على إقرار بأن ابنه الوحيد ذا الثلاثة عشر ربيعاً قد تم قتله من قبل العصابات المسلحة، كونه مات أمام عيني ذاك الأب بعد إطلاق النار عليهما من قبل الأمن أثناء مرورهما أمام مظاهرة، تم حرق مصدر رزقه الوحيد، وهو سرفيس قديم، أمام عينيه كعقوبة لعدم "إطاعة الأوامر". وكيف تم إنزال سائق سيارة الأجرة التي كانت تستقلها، وضربه وإهانته أمامها، قبل أن يتم اعتقاله، وما أخبرتني به وهي تبكي عن إهانتها هي أيضاً لدى محاولتها التدخل على الرغم من إخبارها لهم أنها تعمل في سلك القضاء!
كنت أفكر في قيمتنا كبشر و أشخاص يمارسون مهنة تتعلق بإقامة العدل بين الناس، ما هو مفهوم العدالة في سوريا في ظل حكم هذا النظام المجرم؟ وهل فعلاً هناك من يستطيع تحقيق ولو اليسير منها في هذه الظروف؟ انتبهت فجأة أنني أصبحت أمام مكان عملي، قلت في نفسي اليوم هو السبت وأنا القاضية المناوبة عن النيابة العامة، الأمر الذي يعني سيلاً من ضبوط³ الشرطة (والموقوفين) والشكاوى، ويجب أن أركز في العمل ويمكن متابعة التفكير فيما بعد في مدى قيمتي ومدى فائدتي في سوريا (الأسد)! دخلت مكتبي وبدأت العمل بشكل متواصل. كان محمد الشاب الرائع يساعدني في تنظيم دخول المراجعين وجمع زيارات السجن لأقوم بتوقيعها وإعطاء فرصة لدراسة ضبوط الشرطة وسواها من الأمور لتسريع وتيرة العمل.
فجأة قرع الباب ودخل أبو العز بقامته القصيرة وابتسامته العريضة، وأبو العز هو مراسل فرع الأمن السياسي في ريف دمشق، وكان من عادته سؤالنا دوماً نحن معشر القضاة فيما إذا كنا نحتاج إلى جرة غاز أو مازوت أو قسائم بنزين لسياراتنا، كونه يستطيع تأمينها لنا بغمضة عين، فهو (مراسل في الأمن السياسي فرع ريف دمشق).
لم يعرض علي أبو العز خدماته الثمينة لرفضي لها في مناسبات عدّة، وإنما أخرج من حقيبته (دستة من الأوراق) وقال لي وهو يبتسم ابتسامة عريضة تكشف عن أسنانه الصفراء: "يخليلنا ياكي يا أستاذه شذا بركي بتوقعي لنا التمديدات، المحامي العام لسا ما اجا وبتعرفي القانون ما بيسمح لنا نستضيفن عنا إلا ستين يوم، وبتعرفي نحن منحب نتقيد بالقوانين".
ضحكت في سري من جملته الأخيرة، أخذت الأوراق منه ورحت أقلبها من باب الفضول، فعادة ما يوقع المحامي العام هذه الأوراق مباشرة. وصلت إلى الورقة الثالثة وظننت أني لا أرى جيداً، فعمر الموقوف هو عشر سنوات، تابعت التقليب لأجد أن عدداً كبيراً من الأسماء التي يجب أن أقرر تمديد فترة توقيفهم هم من الأطفال. نظرت إليه وقلت له: "أبو العز في أطفال بهالأوراق"، فأجابني: "أي عادي يا أستاذة... بتعرفي الشر بيبلش من الصغر"، فتحت عينيّ وقلت له وأنا أصرخ تقريباً: "لكنهم مجرد أطفال شو عم يعملوا بالأمن السياسي؟" فأجابني وعلى وجه ابتسامة صفراء: "والله عم ندللن يا أستاذة". طلبت منه الانتظار خارجاً واتصلت بالمحامي العام على جواله، فقال لي: "مو مشكلة أستاذة وقعيهن، مددي بس 24 ساعة للأطفال مو أكتر!".
جمعت الأوراق وأعدتها إلى أبي العز دون توقيع بعد أن طلبت منه انتظار المحامي العام لتوقيعها محتجة بضغط العمل. بعد حضور المحامي العام بقليل عاد أبو العز إلى مكتبي ليقول لي: "مشي الحال أستاذة، يكتر خيره المحامي العام وقع لي كل الأوراق، كلون أستاذة". وخرج وهو يضحك!!!ليتركني أتابع التفكير في سؤالي الذي كنت قد قررت تأجيل التفكير به صباحًا.
¹ أضابير: هي ملفات الدعاوى المنظورة أمام القضاء
² الموقوف: إن بعض المصطلحات القانونية الواردة في المقال مثل كلمة( موقوف ) تم استخدامها كونها هي التي تستخدمها الشرطة و الجهات الأمنية في سوريا ويطلبون من الناس استخدامها . في حين أن من ورد تسميتهم على أنهم (موقوفين) هم في حقيقة الأمر كانوا مختفون قسرا ، وقد كتبت بهذه الطريقة لتكون المصطلحات اقرب لتلك التي كانت شائعة كما ورد أعلاه.
³ الضبوط:هي الأوراق التي تنظمها الشرطة او جهات اخرى مخولة بإجراء التحقيقات الأولية في الجرائم مثل الأمن الجنائي ، و تتضمن معلومات و تحقيقات أولية حول الوقائع الجرمية المزعومة.
شذا ميشيل كيلو، قاضية سابقة وناشطة حقوقية.