top of page

مفترق حياتي "زنزانة"



آية الأحمد، ناشطة و معتقلة سابقة.





مع بداية يوم جديد، وقطرات الندى قد بللت أوراق النباتات، وعلى وقع أصوات الناس يتوجه كل منهم لقضاء يومه بحسب عمله، طالباً، أو مدرساً أو عاملاً أو غير ذلك،وضجيج سيارات المارة،عادت لي ذاكرتي وأنا أقف على جانب الطريق أنتظر وصول السيارة التي تقلني إلى عملي، فيما ارشف فنجاناً من القهوة وأتأمل المارة. عادت لي ذكرى أيام قد مضت عليها ثماني سنوات، أتأمل نفسي وأتأمل من حولي، ها أنا هنا اليوم، قد تجاوزت أياماً لم أكن أتوقع أن أتجاوزها، مشاعر الأمل والرضا والفخر تملأ قلبي وتعطيني يقيناً بأنني أستطيع تجاوز ما سيأتي ما دمت قد تجاوزت ما مضى. اليوم أقف لأسترجع تلك الذكريات بحلوها ومرّها.


اليوم هو الثامن من ديسمبر لعام ٢٠٢٣،وأيام  قليلة تفصلني عن نهاية عام وبداية عام جديد وربما حياة جديدة بعد تعرضي للكثير من الكلام المسيء بحقي، وللكثير من النظرات التي كنت أهرب منها دائماً وكادت في كل مرة تقتلني. لم تكن لذنب ارتكبته،بل بسبب اعتقالي من قبل قوات النظام السوري.ما زالت تتردد في مسمعي عباراتهم القاسية:“أنت وطّيتِ راسنا! أنت اعتقلتِ ولازم تضلّي بالبيت"، "علواه إنك ميتة جوا السجن، كنا ارتحنا منك ومن همك".  

 

لا أظن إنساناً على وجه الأرض يتمنى أن يكون في هذا الموقف ويسمع مثل هذه الكلمات. 

كنت قد انتقلت من زنزانة منفردة بمساحة متر مربع واحد، إلى سجن أكبر ببضعة أمتار لا تختلف فيه أيامي كثيراً عن تلك الأيام التي قضيتها في السجن التابع للنظام السوري، لكن الاختلاف هو عدد السجانين ومظهرهم.بدأت القصة عام 2015 في مدينة حماة، فرع أمن الدولة. حين كنت في المنفردة الصغيرة بالكاد كنت أرى ضوءاً بسيطاً من نافذة صغيرة قريبة من السقف. كان على بابها سجان ذو بشرة سمراء وعضلات ضخمة وأكتاف عريضة وقامة كبيرة،على يده اليسرى وشم ”لبيك يا علي“. لم يكن هناك يحرسني فقط، بل كان يعذبني بلسانه وعضلاته؛ يردّد علي دائماً كلمات وجمل تشعرني أني سأموت بعد قليل، من تلك الجمل التي تحفر في ذاكرتي إلى اليوم:

” هل تسمعين تلك الأصوات؟ هذا هو صوت الموت الذي سيأتيك“.

"هل تتوقعين أن تخرجي؟من يدخل إلى هنا لا يمكنه أن يرى الضوء مرة أخرى“.

”بعد ساعة سيحين دورك… غداً دورك، جهزي نفسك!“، كل ذلك ترافق دائماً مع ضحكة استهزاء وسخرية، لكنها كانت مخيفة بالنسبة لي. 

لم يكن ممكناً معرفة الوقت ولا التاريخ، كنت أميز شروق الشمس وغروبها فقط، وكنت أميزالليل من صراخ النساء،وهن يتوسلن السجان أن يرحم حالهن ولا يأخذهن. لم أعلم أين يأخذهن، لكن توسلاتهن كانت تؤلمني بشدة. السجان الذي كان يقود النساء هو سجان آخر غير سجاني، صوته أشد قدرة على إثارة الرعب، أكثر خشونة. لم أرَ وجهه لكني سمعت صوته عدة مرات. مر يوم آخر، وفي أحد الأيام اختلف كلام سجاني بعض الشيء، لكن ضحكته الهازئة لم تختلف: ”أي! اليوم أول خطوة لك نحو الموت، جهزي حالك، حاجتك!“ لم أكن أعلم ما يقصده، لكني عرفت  فيما بعد أنه كان يذهب بالنساء إلى ضابط رفيع المستوى من أجل اغتصابهن وإمتاع نفسه بهن.  

كنت حاملاً في الأشهر الأولى، وكنت أفكر: هل يمكن أن أخسر طفلي في السجن؟ "بالطبع لن أنجو لا أنا ولا طفلي“ كنت أجيب نفسي.


 مرت الساعات، حل الظلام، أصوات مفاتيح تقترب من الباب، وضع المفتاح في الباب نعم، لقد حان دوري، لم أكن أتصور العذاب الذي ينتظرني؛ ”يا الله قومي بسرعة! الضابط بده إياكِ“.

”ترى أي تحقيق في مثل هذا الوقت؟“ رحت أتساءل. خرجت وهو يمسك بيدي ويدفعني أمامه فأسقط على الأرض، وهكذا حتى وصلت إلى مكتب الضابط الذي كان فيه سرير صغير. كانت الأفكار تأخذني بعيداً وتعيدني مكاني خلال لحظات. أمسكني ورماني على ذلك السرير وأنا أصرخ: ”منشان الله ارحمني! أنا حامل… الله يخليك“ بكيت وصرخت وتوسلت إليه في ذلك اليوم، كان يوماً من أصعب الأيام التي مررت بها، لم يغتصبني بل اكتفى بإذلالي وقهري من مبدأ: ”أنا لو بدي ما حدا بيمنعني بس أنا ما بتقبل أغتصب وحدة مثلك“. عدت إلى الزنزانة وأنا أطلب من الله الموت، لأن الموت كان رحمة لمن يناله. كنت على يقين أنه سيأتي يوم أُغتصب فيه، وكنت أدعو: هل سأنجو؟ يا الله لم يعد لي سواك!


مرت الأيام بشكل متكرر،لا أعلم كم من الوقت قد مضى داخل السجن، ولكنه مضى.لا أعلم كذلك كيف خرجت، ولكن فيما بعد علمت بأن عائلتي قد دفعت مبلغاً كبيراً من المال. حين خرجت ظننت أنني سألقى من يقول لي: ”حمداً لله على السلامة، فرحنا بشوفتك“ لكني وجدت العكس تماماً. كان السجانون مختلفين، ومعظمهم لا يمتلكون تلك العضلات التي كان يمتلكها السجان السابق، وللأسف كانوا الأقرب لي دماً وقلباً.  لقد حكموا علي بسجن جديد دون رحمة. كانت قلوبهم سوداء مليئة بالحقد،وعقولهم مليئة بأحاديث الناس وما يتداولونه عن حادثة اعتقالي وإطلاق سراحي، بغض النظر عن القرابة أو المودة اللتين يفترض أنهما تربطانهم بي. 

لن أنسى ما فعلتموه بي وبطفلتي الصغيرة… لن أنسى تلك التهم التي طعنت بشرفي، لن أنسي اتهامكم لي إنني أحمل بداخلي طفلة أحد السجانين، ولن أنسى حتى نظرة الحقد التي شاهدتها بعيونك يا أمي حين دسسْتِ لي سماً في الطعام وقلتِ لي إن ذلك الطعام مسموم ويجب أن أتناوله وأكتب أنني قد انتحرت وشربت السم. أي قلب أم تحملين؟ حاولت مراراً أن أبرر لك ما فعلته بي، لكني آسفة إذ لم أجد لك مبرراً، ولا حتى كلام الناس حولي آنذاك. أي أم تستطيع قتل ابنتها؟ أنا حقاً لا أريد أن أذكر ذلك ولا أصدق حتى أن هناك أم تفعل ما فعلته بي.


تناولت السم، لكن شاء القدر أن ينقذني، وشاءت الأقدار لاحقاً أن تطلبي مني السماح أنا لا أكرهك بالطبع يا أمي، فأنت أمي، لكني آسفة لعدم قدرتي على مسامحتك… سامحني على عدم مسامحتي لك.

 

اليوم أريد أن أقول لهؤلاء الناس: يا من حكمت علي مسبقاً، هل تظن أنني اعتقلت بإرادتي؟ هل تظن أنني أردت لنفسي أن أكون خلف القضبان وعند أناس لا يعرفون الرحمة؟ لم أحدثكم عما حصل معي داخل السجن وفعلتم بي ما فعلتموه، كيف لو رويت لكم تلك القصص التي عشتها؟ أي عار جلبته لكم؟ ألم يعتقل شبان وشابات مثلي، هل كانت ردة فعل المجتمع تجاههم كما فعلتم أنتم بي؟ بعد أن تم الإفراج عني، ألا يحق لي أن ألقى أناساً يقولون لي: أنت بطلة، الحمد لله أنك عدتِ إلينا، بدلاً من كلامكم الذي أدماني.


انظروا إلي الآن، انظروا إلى كم الإنجازات التي حققتها لأنني واجهتكم وبقوة. أنا أقف اليوم صامدة قوية، رزقت بطفلة كنت أتوقع أن تموت أو أن تخلق مشوهة لكنها جاءت بصحة جيدة وسميتها نايا، وأنا أعمل بمنظمة إنسانية لإنقاذ الأرواح. عملت بجد على تطوير نفسي لأصل إلى ما أنا عليه اليوم ورزقت بطفلين آخرين: هشام وقيس. كما أني حصدت نجاحاً كبيراً في عملي، وأنا اليوم أفتخر بنفسي وبذاتي، ولا أنسى زوجي الذي كان بجانبي في أصعب ظروفي، ورغم التنازلات التي قدمها لوالدته لكي يبقى معي، كانت ضريبة قاسية.

إلى كل من أدار ظهره لي يوم إخلاء سبيلي: ألا تشعر بالذنب أني أصبحت سنداً لك يا من لم تكن سندي؟ أصبحت كتفاً تسند رأسك عليه لتهرب من قسوة الحياة. ألا تشعر بالذنب لما فعلته معي سابقاً؟ يقال إن الدنيا دوارة، وهذا ما حدث معي، أتعايش كل يوم مع وضعي، وأحب النجاح وكلي فخر وقوة.


في الختام رسالتي لكم جميعاً، اصغوا لمن تحبون، لا تحكموا عليهن  بأشياء لم تكن بإرادتهن،ضعوا أنفسكم مكانهن ثم احكموا. كونوا عوناً وسنداً للضحايا، وخاصة المعتقلين والمعتقلات،في سوريا يوجد عشرات آلاف من الضحايا الذين دفعوا حياتهم فاتورة فورية لا تقبل التسديد على الدفعات.


 آية الأحمد، ناشطة و معتقلة سابقة.

٣٦ مشاهدة
bottom of page