top of page

ما زال للحلم بقية



د.عائشة طعمة: طبيبة و ناشطة.



لم تكن البداية عندما استطعنا تحطيم ذلك التمثال القابع على باب المقهى، لكنها كانت نقطة فارقة وكفيلة بتحديد مستقبل العديد منا. كان ذلك منتصف عام 2012 في جامعة حلب، كلية طب الأسنان.


لا أستطيع الآن تحديد شكل أوحجم التمثال تماماً، سوى أنه كان للقائد الخالد (كما يسمونه). لا يكاد صوت تحطمه يغادر مخيلتي إلا ليتبعه صوت، النداء لأداء صلاة الغائب، في ذات الساحة على روح الشهداء الذين كانوا يسقطون يومياً في أنحاء سوريا، وأنا أقف في منتصف الساحة، أراقب بخشوع ذلك المشهد.


تنتهي الصلاة، ينتهي التجمع ولا تنتهي التساؤلات التي تدور في رؤوسنا هل سينقضي الأمر على خير؟


في اليوم التالي، ورغم كونه يوم عطلة لفئتي الطلابية[1]، اعتدت أن أرافق زميلتي في السكن إلى الجامعة، فأنا عادة لا أحب أن أبقى وحيدة. كان كل شي طبيعياً لحظة دخولنا للكلية، كنا نتبادل الحديث متجهين إلى إحدى المخابر، وفجأة رأينا الطلاب يركضون ويصعدون الأدراج.

ركضنا معهم دون أن نعلم لماذا نركض أو إلى أين. توقفنا في أحد الطوابق العلوية نراقب ما سيحصل. توالت أصوات صراخ إلى مسامعنا. لا أدري كيف تجرأت ورفعت نظري باتجاه مصدر تلك الأصوات. من النافذة لمحت عدداً من رجال الأمن يضربون بعصي حديدية شيئاً ما مرمياً على الأرض، أدركت لاحقاً أنه زميل لنا، وكان أحد أهم المطلوبين لهم بسبب نشاطه اللافت في الحراك السلمي. في لحظة ما، عندما لمحنا أحدهم من بعيد، بدأ بالصراخ علينا. حقيقة لم أدرك حينها لماذا لم يريدوا أن نراهم يضربون زملاءنا بتلك الوحشية، فهم بطبيعتهم لا يخجلون من هذه التصرفات بل يتباهونبها.عندما تعود تلك الصورة إلى مخيلتي الآن: من النافذة أرى شخصاً وهو يضرب زميلي بكل ما أوتي من قوة، كأنه يحفر في الأرض، أدرك أنه حفر تلك المشاهد في ذاكرتي فباتت لا تمحى أبداً.


هي دقائق فقط وانتهى كل شيء. رأيتهم وقد اعتقلوا زميلي وعدد من المطلوبين من زملائنا، ضربوا عميد الكلية لأنه اعترض على اقتحامهم صرحاً علمياً بهذه الوحشية، دمروا المخابر والعيادات ومضوا.


لا أدري أي جرأة اعترتني وجعلتني أصحب صديقتي لنغادر الكلية، مارين عبر ذات المكان الذي تم ضرب زملائي فيه. شعرت أن قلبي بات يخفق في قدمي وأنا أرى الدم على الجدران، دم في كل مكان، أيعقل أن ما رأيته كان حقيقة؟ قدماي لم تعودا تحملاني، تسمّرت في مكاني محاولة استيعاب ما يحصل. راحت صديقتي تجرّني، راجيةً إياي أن نخرج بسرعة. موظفو الكلية كانوا يصرخون علينا يريدوننا أن نغادر بسرعة، أرادوا أن يطمسوا معالم الجريمة. أحضروا الماء لغسل الدم وتنظيف المكان، لكن محال أن يغسلوا صورته التي ارتسمت في رأسي خرجنا من باب الكلية، وما إن رأيت الطريق حتى انفجرت بالبكاء. صادفني زميل لي في الطريق وسألني لماذا أبكي، فلم أستطع الإجابة، وهو أصلاً يعرف الإجابة، إذ كيف لا أبكي وأنا أرى كليتي تستباح بهذا الشكل؟ كيف لا أبكي وعميد كليتي تلقى ضربة على وجهه من جهلة لا يقدرون الكفاءات؟ كيف لا أبكي وأنا لا أعرف مصير زملائي؟ وعندما لم أجب نظر إلي نظرة ملؤها الحنان قائلاً: "ديري بالك على حالك!“


مشينا باتجاه السكن الجامعي، وعلى بابه قابلت زميلة لنا. كانت أكبر منا بدفعتين. لا أذكر أن حديثاً دار بيننا قبلها فيما عداسلام عابر كنا نتبادله عند اللقاء. سألتني: ما الأمر؟ فارتميت باكية في حضنها، أردد: "كسّروا الكلية"، ضمتني إليها بقوة قائلة: ”الحمد لله على سلامتك ،الله معنا".

حتى اللحظة لا أجد تفسيراً لاعتقال زملائنا من الكلية وبتلك الطريقة الوحشية سوى الانتقام لتحطيم تمثال قائدهم، و ردعنا عن القيام بأي تحرّك من شأنه دعم الحراك السلمي حينها.


لم يفلحوا، كان ذلك واضحاً في الأيام التالية حين قررنا الخروج بتظاهرة سلمية خارج الكلية، خوفاً منا على سلامة كليتنا التي لم يراعوا حرمتها سابقاً. تجمعنا في الكلية وبدأنا بالخروج فرادى، متعاهدين ألا نطلق أي هتاف قبل أن نصبح خارجها.


ما إن تجمعنا في الخارج وأطلقنا أول صرخة حرية، حتى طوّقتنا مجموعة من الكائنات أشبه بالوحوش. وسرعان ما بدأت صيحات من زملائنا الشباب: “خلي البنات يفوتوا أول” بدأ الشبان بالدفاع عن أنفسهم، ليعطوا فرصة للفتيات بالدخول عبر بوابة الكلية الخلفية الضيقة. لم أفكر أبداً بالهروب، بل تسمرت في مكاني، وكأني كنت آمن على نفسي من الاعتقال أو الإهانة. من بعيد لمحت أبا جميل (أحد زملائي كان يفضل أن نطلق عليه هذا اللقب)، وهو يضرب أحد الشبيحة وكأنه يأخذ بثأره مما فعلوه بنا بالأمس، وبجانبي رأيت زميلاً لي وقد أمسكه أحد الشبيحة، بدون تفكير اقتربت منه وقلت له: “يا أستاذ، هذا كان معي هلق جينا أنا وهو من هاد الطريق وما إلنا علاقة بشي“…


لا أعلم من أين جائتني القوة لأقول ذلك! ولماذا أطلقت عليه لقب أستاذ، وهو أبعد ما يكون عن ذلك!! أو لماذا اخترعت تلك الحجة وأنا على علم بأنها لن تجدي!


الحمد لله، أطلق سراح زميلي فوراً. رغم أني حاولت حمايته من الاعتقال، إلا أنني لم أهنئه بالسلامة، وهو بالمقابل لم يشكرني على فعلي ذاك!


كثيرة هي المواقف التي لاتزال تسكن ذاكرتي لتلك الفترة والتي تعكس منهجية النظام بإذلال كل من يرفع صوته بوجهه مطالبا بأبسط حقوقه دون أدنى احترام لإنسان أو صرح مهما كان مقدس واعتدائه على كليتي في ذلك اليوم ليس إلا إثباتا لذلك.


أحد عشر عاما مروا كان يجمعنا مقعد دراسة واحد وحلم واحد، حلم العيش بحرية وكرامة في بلد أرهقه الطغيان والقمع، واليوم كل منا يسعى لتحقيق حلم آخر في منفاه البعيد آملين أن نعود يوما لنحقق حلمنا المشترك ونكون شاهدين على تحقيق العدالة ومحاسبة كل من ارتكب ولا يزال يرتكب الجرائم بحقنا وحق أهلنا.

[1] الفئة الطلابية هي مجموعة من طلاب العام الدراسي، تضم عدداً محدداً من الطلاب، مقسمين حسب الكنية. تجري الفئة الطلابية القسم العملي من الدراسة، المتعلقة باستخدام المخابر معاً.


د.عائشة طعمة.



٨١ مشاهدة
bottom of page