top of page

صرخات لم تغادر ذاكرتي



نائلة كزيبرة: متطوعة في الدفاع المدني.



أكتب اليوم من تجربتي الشخصية، أنا نائلة كزيبرة متطوعة في الدفاع المدني السوري (الخوذ البيضاء) [1] منذ ست سنوات.

أعيش أيامي الآن بقليل من السكينة والهدوء، لأنني قررت الاستقرار في مدينة اعزاز في الشمال السوري. قلت لزوجي"سوف أقيم بالقرب من الجدار التركي، لم أعد أحتمل صوت الطائرات، ولا المدفعية، ولا البرميل والتفكير بموقع سقوطه".


أنا متعبة والحالة النفسية لأولادي النفسية كانت سيئة جداً، بدون مبالغة، كانت المرة الثلاثون التي ننزح فيها.


سأحكي عن يوم محفور في ذاكرتي، في ذاك اليوم فاضت كل مشاعري الإنسانية، 16 شباط 2016، يوم القصف العنيف ضمن الهجمة الروسية على الشمال السوري. لم يكن بإمكاننا تحديد مصدر ولا اتجاه القصف (طائرات روسية، قصف مدفعي، براميل من وقت لآخر)، استمر لعدة أيام. في الساعة الثامنة مساءً من ذلك المساء، سقطت قذيفة بالقرب من مكان تواجدنا، وانقطعت الكهرباء. صوت من بعيد كان ينادي: ”يا محبين الله ساعدونا!“ وصراخ أطفال ونساء، لم أستطع السيطرة على نفسي، توجهت نحو الباب للخروج للمساعدة. أمتلك بعض المعلومات الطبية عن الإسعاف، كنت قد عملت سابقاً (في الفترة بين 2014_2016) في مستشفى للأمراض النسائية في مكتب التوعية الصحية، لكني كنت ألتقط بعض المعلومات من الممرضات والقابلات لأضيفها معلوماتي، فقد أحتاجها يوماً ما في زمن الحرب الذي نعيشه، هكذا كنت أقول لنفسي دائماً.


وقفت في الباب، هل أذهب وأترك أولادي لأساعد المصابين؟ بالمعلومات الضئيلة التي أمتلكها قد أنقذ أحداً! كان زوجي يمسك يدي كي لا أذهب، سمعت صوت دوي قذيفة ثم اختفى ذلك الصوت الذي يقول ”يا محبين الله ساعدونا!“


”شو؟“ أمسكت بزوجي وصرخت: ”ماتوا؟ ماتوا؟“


بدأت أضرب على صدره: "ما خليتني أروح لعندن. كان بدن مساعدة."


همس زوجي بهدوء: "كنتي رح تموتي أو تتصوبي، ما بدي أخسرك."


منذ ذلك اليوم وصرت أبحث عن هذا العمل، الذي كان مقتصراً فقط على المنقذين من رجال الدفاع المدني.

كنت دائماً أسأل: ما في منقذات؟ لماذا يقتصر هكذا عمل على الرجال؟! دائماً أسأل وأسأل… وبما أن القصف (عادل) فلا يميز بين كبير وصغير ولا رجل أو امرأة، فلماذا لا يتاح للنساء المساحة للمشاركة في هذا العمل الإنساني العظيم؟!


وذات يوم وفيما كنت أتصفح الفيسبوك، قرأت منشوراً عن طلب الدفاع المدني السوري لمتطوعات. طرت من الفرح، كنت أعمل حينها في مستشفى متخصص بحالات الإسعاف، فتركت العمل مباشرةً وتقدمت إلى الدفاع المدني. لم أهتم لمعرفة منطقة العمل، أردت الانتساب فقط.


كانوا قد قاموا بإنشاء مركز دفاع مدني نسائي في دارة عزة في الريف الغربي لإدلب في شهر تموز 2017، فنقلت سكني إلى تلك المنطقة، ووافقني زوجي لأن عمله حر غير مرتبط بأي منطقة، وفي كل الأحوال أنا مهجرة من مدينة حلب.


وبدأت العمل الذي أعشقه. خضعنا للكثير من التدريبات عن الإنقاذ والإطفاء والإسعاف، استخدام السترة الصفراء والزرقاء، لطالما حلمت بلبس تلك السترة والعمل تحت رايتها.


على السترة من الخلف مطبوع رمز الدفاع المدني السوري، مكتوب حوله: ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً (المائدة٣٢)، الآية القرآنية التي تجسد قيمة إنسانية في غاية الروعة.


نحن النساء المتطوعات، والرجال المنقذون، نباشر عملنا كل يوم، مستعدين لأي مهمة توكل إلينا لمساعدة المدنيين، شعارنا "نحن حياديون، لا ننتمي لأي حزب سياسي أو فصيل، ونلتزم بخدمة كافة أطياف الشعب السوري" ننتظر رنة الهاتف، أو حالة تأتي إلى المركز، لنقوم بتقديم الإجراءات اللازمة لهم.


أحببت أن أشارككم يومياتي بعد انضمامي للدفاع المدني؛ أضبط المنبه على توقيت عملي لألحق بالسيارة التي تقلّني إلى المركز، لأن الدفاع المدني أنشأ بعض المراكز في منطقة منسية نائية، لا توجد فيها لا نقطة طبية ولا مستوصف لخدمة المدنيين مجاناً.


ها قد وصلت إلى المركز أخيراً، بدأت المراجعات واحدة تلو الأخرى. تأتي كل يوم زوجة صاحب السوبر ماركت الذي بجانبنا لتراقب ضغطها، وتأتي معها جارتها وكذلك بائعة الحليب لكي تراقب السكر، وبعض النسوة اللاتي يجتمعن ليراقبن وضعهن الصحي.


أحب هذا الاجتماع الصباحي مع فنجان القهوة، أستمتع بحديثهنّ البريء في تلك القرية النائية. بعد تقديم الخدمة النساء، يخرجن شاكرات ممتنات، يتمتمن ببعض الكلمات ”بنتي… الله لا يمرضكَ“، ”بنتي… الله لا يحيجك لأحد“، ”الله يحميكن“…


أواخر كانون الأول من العام 2022، جلسنا وزميلاتي نتحدث، رن الهاتف عند الساعة الحادية عشرة صباحاً، ردت إحدى المتطوعات، ”نعم، تفضل!“، فقال المتصل: ”يوجد حادث قريب من منطقتكم، نريد سيارة إسعاف“، بدأنا نتجهز وندوس على أقدام بعضنا البعض من السرعة، حادث!!! أنا أحب المشاركة في عمليات الإسعاف، وعندي خبرة جيدة فيه، لذلك أكون أول من تصعد السيارة. وصلنا للمكان، حادث دراجة نارية، أب يحمل معه أولاده الأربعة ويذهب بهم كل يوم إلى المدرسة، لأن المدرسة بعيدة، ينقلهم على الدراجة النارية كي لا يحرمهم من التعليم. كان حادثاً مؤسفاً، أحدهم كان على الرصيف يصيح، والثاني بجانب أخيه يبكي، والآخر مرمي على مسافة منهما ومصاب بجروح وخدوش، ولكن منظر الدماء أخافهم. قمنا بالإسعافات الأولية وحملناهم بسيارة الإسعاف إلى المستشفى وهم بين صياح وبكاء، الأم لحقت بنا إلى المستشفى. ”يا ربي ما بيكفي قصف وضرب، وكمان حادث؟! فين ولادي؟ فاطمة… إلهام… محمد… عبده… الله يوفق كرد علي!“ طمأنتها و هدأتها: "لا تخافي، قليل من الخدوش."


عدنا إلى المركز، دخلنا ووجوهنا حزينة، بعد ساعة دخل المدير وبدأ يشكر فريق الإسعاف "صبايا …شغلكم بيرفع الراس، اشتغلتوا شغل كتير كويس اليوم."


سألت المدير "ماذا لو كان هذا الحادث بالليل ونحن دوامنا إداري، ليش ما بصير مناوبات للنساء، لازم يكون إلنا دور."


جاوبني "صحيح سيدة نائلة، الموضوع قيد الدراسة سيكون بالأشهر القادمة من ضمن الخطة لبعض النساء بالدفاع المدني مناوبات بالليل مثلكم مثل رجال الإسعاف والإنقاذ".


وبالفعل بدأ العمل على ذلك، عادة نعمل من التاسعة حتى الخامسة وسنبدأ قريبا بالمناوبات الليلية.


في الفترة الأولى من انتسابي للدفاع المدني السوري لم يكن المجتمع يتقبل فكرة وجود نساء في فريق الإنقاذ ولكن مع الوقت بدأنا بإقامة جلسات رفع وعي مجتمعي حول أهمية ذلك، و حضرنا الكثير من ورشات بناء القدرات وكنا جنباً إلى جنب مع زملائنا من الرجال، قمنا ببعض جلسات التوعية المجتمعية، للتعريف بخبرات عناصر الدفاع النسائية، في الإسعاف والإنقاذ لنكون قريبين من المحتاجين النساء والأطفال ونحن لم نكن أقل قدرة من الرجال في عمليات الإسعاف.


كل ذلك يعزز من دورنا كنساء في المجتمع وفي دعم كل عمليات المساعدة التي يقدمها الدفاع المدني.

[1] الدفاع المدني السوري ( الخوذ البيضاء ) وهي منظمة إنسانية مكرسة لمساعدة المجتمعات على الاستعداد والاستجابة وإعادة البناء بعد الهجمات في سوريا بدأتعملها عام ٢٠١٢ https://www.syriacivildefence.org

نائلة كزيبرة



٤١ مشاهدة
bottom of page