مرح النادر: محامية و ناشطة.
تشرق الشمس في كل بقاع الأرض على أمل يوم جديد واعد بالخير للجميع، إلا في مدينتي البوكمال [1]، حيث أشرقت شمس الصباح ذات يوم في نيسان 2014 على عناصر تنظيم داعش الذين جاؤوا إلينا من المجهول، ليحجبوا ضوء الشمس بغمامة سوداء تمطر خراباً ودماراً، ويريقوا الدماء في كل أرجاء المدينة.
حين دخل تنظيم داعش مدينة البوكمال، كنت طالبة حقوق في السنة الثانية، كانت دراسة الحقوق حلمي الذي انتظرته لسنوات. ومنذ وصول التنظيم بدأ بفرض قوانينه الصارمة والمجحفة بحق النساء والرجال والأطفال، بقصد تخويفهم وترھيبهم، وسيطر مشهد الدم على المدينة. فثقافة تنظيم داعش تنحصر في الخراب والتدمير، يقتلون الناس بدم بارد.
كان من نتائج تلك القوانين إغلاق الطرق، وعدم السماح للفتيات بشكل خاص بالتعلم. كانوا يعاملون الناس بتعجرف، ملغين كل الحقوق، وخاصة حقوق النساء، حتى أن الخروج من المنزل لم يكن مسموحاً إلا بشروطهم، بالإضافة إلى فرض اللباس الأسود الفضفاض الذي يغطي كل المرأة من رأسها ووجهها حتى قدميها، وكأن النساء في بلدي لم يكفيهن ظلم المجتمع وغياب العدالة الاجتماعية ؟!
لم يكن أمامي خيار إلا تأجيل عام دراسي آخر، ففي كل مرة أردت فيها السفر لمكان جامعتي في حلب كان التنظيم يمنعني، لأنها ”بلد الكفر“ حسب قولهم. فأي بلد ليس تحت سيطرتهم ھو بلد كفر وممنوع على أي شخص من مناطق سيطرتهم الذهاب إليه. ومع اقتراب موعد الامتحانات كنت أتقطع ألماً عندما أرى زملائي قد اجتازوا الامتحانات وترفّعوا للسنة الثالثة ثم الرابعة…
مرت سنوات وأنا أدرس القوانين وأتابع المحاضرات، على أمل العودة لمقعدي الجامعي الذي تعبت سنوات للحصول عليه. وذات يوم، قررنا الخروج من المدينة، على أمل العيش في مدينة أخرى نستطيع التنفس فيها دون دماء أو ظلم. جهزنا الحقائب والثياب، كنت أحمل حقيبة سوداء صغيرة وضعت فيها كتبي وبطاقتي الجامعية وبعض الإكسسوارات التي تعني لي الكثير (لأنها مشغولة يدوياً في البوكمال، كما أنها تحوي ساعة يد تعود لوالدي).
كانت رحلة أشبه برحلات الموت أو المجهول. سارت السيارة على غير ھدى، كان المهم أن نهرب قدر المستطاع عن أعين التنظيم المجرم، وأخيراً وصلنا إدلب بسلام.
الساعة التاسعة صباحاً في إدلب، تلك المدينة التي يرفرف علمها بالحرية (خارج سلطة النظام وداعش). كانت إدلب حينهاالمدينة الحرة التي تتيح للمدنيين الحياة دون قيود أو خوف. وفيما كنت أستعدّ للتوجه نحو الحدود السورية التركية، رنّ هاتفي: مرح… مرح… مرح… قلت: ماذا؟
فأجابت جارتنا من البوكمال: ”مرح، بيتكم تعرض للقصف من الجهة المقابلة للشارع العام“ آه! ذاك مكتبي الذي كنت أطمح أن أفتحه يوماً ما وأمارس مهنة المحاماة لتحقيق حلم والدتي أطال الله بعمرها، ووالدي رحمه الله، فقد كان الداعم والسند الحقيقي لي منذ دخولي إلى المدرسة، إذ نسج في مخيلتي حلماً تمنى أن يراه، وبدا يخطط لذاك الحلم من خلال ترديد مقولته الشهيرة على مسمعي: ”أنت ابنتي التي أفتخر بها، سأهب لك غرفة من بيتنا، ليكون مكتب محاماة لك، ويزين اسمكِ واسمي المكان، و أتباهى بك“.
لكن، مع الأسف، جاء أجل والدي ولم يرَ تحقق حلمه وحلمي، رحل إلى جوار ربه تاركاً خلفه وصية لأمي بأن تحقق لهما تمناه لي، كي يطمئن على مستقبلي ويحقق لي حلمي.
بكيت، وفقدت لفترة ما شغفي بكل شي… لكني نهضت مجدداً، وقلت في نفسي: سأستمر! نعم استمريت وأنا الآن متخرجة من كلية الحقوق - قسم العدالة، من جامعة كهرمان مرعش التركية وأصبحت لدي معرفة وفهم جيد بالقوانين الدولية وحقوق الإنسان، وهو ما يجعلني أفكر أنني يوماً ما سأحاسب كل هؤلاء المجرمين، وأقودهم عبر المحاكم إلى السجون، ليعرفوا معنى سرقتهم لحريتي واغتيالهم لحلمي.
فراق الإنسان لأرضه صعب جداً، يشبه فراق الروح للجسد. نحمل في داخلنا ذكريات جميلة من الطفولة، عن البيت، المدرسة، الجيران، الأقارب والأعياد في بيت العائلة الكبير، تلك الذكريات التي سرقها منا أولئك المجرمون.
تلك الفترة السوداء، فترة حكم الغربان، داعش، التي أسعى وكثيرون غيري للوصول إلى يوم تتحقق فيه المحاسبة بخصوصها وينال الناس، أمثالي، بضعاً من العدالة التي يستحقونها.
[1] البوكمال: هي إحدى مدن محافظة دير الزور والتي تقع في شمال شرق سوريا
مرح النادر.