top of page

حبة حرية وكمشة عدالة



عائشة خولاني: ناشطة اجتماعية.



لم يكن أبي من متابعي أخبار النسويات ولا حركات تحرر المرأة، وإنما كان فطرياً نقياً، يحمل في قلبه محبة للإنسانية، وإيمانا قوياً بالعدالة والمساواة بين الرجال والنساء.


حين بلغت السابعة عشرة من عمري وكنت حينها في الصف الثاني الثانوي، كان علي الاختيار في المدرسة بين الفرعين الأدبي والعلمي (كما هو معروف لدى كل السوريين بعد إنهاء صف العاشر) كنت أحب المواد الأدبية: الفلسفة والأدب والشعر والمسرح واللغات، لذلك وددت أن أختار الفرع الأدبي. لكن في مدينتي داريا لم يكن هناك سوى الفرع العلمي، فنقلني والدي حينها إلى مدرسة (محمد بهجة البيطار) التي تقع في حي الميدان بدمشق، أي خارج مدينتي داريا.[1] كنت أذهب باكراً جداً كل صباح للوصول إلى مدرستي والعودة ظهراً، حتى أنهيت الثالث الثانوي فيها.


في عام 1998 حصلت على شهادة الثانوية العامة، الفرع الأدبي، وكان على الطالبة التي تود الالتحاق بالجامعة أن تتقدم للمفاضلة؛ تذكر الطالبة في طلبها أسماء عدة فروع جامعية تود الالتحاق بأحدها، ثم تقرر إدارة التعليم العالي بعد ذلك الكلية والجامعة التي تتابع فيها الطالبة دراستها، حسب مجموع علاماتنا في الثانوية. وكنت قد تقدمت على مفاضلة العلامة الاختصاصية في اللغة الإنجليزية، وكانت المفاجأة أنني قُبلت في جامعة حلب.

أن أدرس في جامعة حلب، يعني أنه ينبغي عليّ بديهياً الانتقال للعيش هناك، وعلي الانتقال مباشرة للتسجيل والدوام وتقديم حلقات البحث والامتحانات، ما يعني ببساطة أنني أقوم بثورة في بيئتي! وفي ذلك الزمان! لمن لا يعرف حلب، هي المدينة الكبرى في شمال سورية، وتبعد عن دمشق ما يقارب 400 كم، والسفرإليها يتطلب خمس ساعات ذهاباً وخمس ساعات إياباً أو أكثر من ذلك بقليل.


أنا ابنة داريا "المحافظة"، ومن عائلة معروف عنها (شعبيا) أنها الأكثر التزاماً دينياً في المدينة. في داريا، مثل جميع مدن بلادي، ليس للمرأة الحقوق نفسها التي للرجل، إذ يحق له ما لا يحق لها، وقد اختصروا ذلك بقولهم: (الرجل لا يعيبه شيء!) فهو يستطيع أن يدرس ما يريد، ويعمل ما يريد، دون أن يواجهه أو يناقشه أحد فيما يريده، وأما ما تريده ”هي“ فليس بذي قيمة، فهي أولاً وأخيراً ستكون زوجة وأماً، واجبها تربية أولادها، فإن قبل أهلها ما ترغب بدراسته فهي محظوظة جداً، ويجب أن تكون ممتنة لأنها ولدت لهؤلاء الأهل.

الفروع الجامعية المقبولة اجتماعياً للبنات لا تتعدى كليات الطب والشريعة وبعض الكليات الخفيفة، أما اللغات الأجنبية والحقوق والهندسة والعلوم التقنية فمحرّمة عليهن، وهي حكر على الشباب والرجال، فكيف ستجرؤ على العمل إلى جانب الرجال، وملاصقتهم في هذه المهن! يُضاف إلى ما سبق أنه لا يسمح لها بالابتعاد عن منزل والديها سواء في الدراسة أو العمل. فكيف إذا رغبت بدراسة فرع لم تستطع التسجيل فيه في مدينتها، فذلك هو”العيب“ بذاته، وقد يبلغ درجة ”العار“ اجتماعياً، وهو ما حدث معي تماماً! فقد قمت بالتسجيل في جامعة حلب، قسم اللغة الإنجليزية.


أخبرت والدي بنتيجة المفاضلة وقبل دون أي تردد، بل وشجعني على ذلك، والدي الذي أعتبره نسوياً قبل النسويات في مجتمعي، وقد سبقهم بأشواط عديدة في نظرته للمرأة واعتبارها شريكة للرجل في كل شؤون الحياة، رغم تعليمه المتواضع.


كيف لا يوافق! وهو يرى أن متابعة الفتاة دراستها ”واجب“ عليها، في الوقت الذي كان يُعتبر تحصيلاً حاصلاً في مدينتنا، فالشهادة تحميها من غدر الزمان، في مجتمع ظالم للمرأة وفي بلد قوانينه غير عادلة مع النساء، بينما تتاح للشاب كل الفرص.

بالإضافة لدعمه لي لإتمام دراستي في حلب، بل وتعهد بكافة مصاريف السفر، فقد كان والدي يرى أن كل ما يخص العلم مقدس ويجب أن يبذل في سبيله كل غال وثمين.


سافر أبي معي إلى حلب، وأوصل لي أغراضي إلى البيت الذي استأجره لي قريبا من أحد معارفنا، واطمأن على أن البيت مريح ومناسب في موقعه، وذلك لإيمانه أنه يجب أن يوفر لي كل ما يلزم لراحتي ولإتمام دراستي. كان بيتي يجاور قلعة حلب الشهيرة، وكنت أشعر أني قلعة في حياة أبي، يراني كأخواتي البنات، مشروع بناء قيم، ويرى أن تعليمنا سيجعل عالمنا أجمل وأقوى، وهكذا كنا، ثلاث فتيات جامعيات في بيته.


لأمي أسلوبها المختلف، فهي المحبة و المعطاءة بلا حدود، لكنها تواجه الأمر بطريقتها الخاصة، هي لاتعارض أبي في قراراته، فشيء ما بداخلها يجعلها تشعر أنه على حق، ولكنها لا تقوى على ذلك بنفسها، فقد كانت تخاف من رأي مَن حولها؛ من أهلها وجيرانها والمجتمع ”شو بدهم يقولوا عنا، بعتوا بنتهم لآخرالدنيا، شو مو خايفين عليها؟!“ لذلك حرصت على إخفاء أمر دراستي في حلب عن أقاربي، فإذا كان لا بدّ من دراستي في تلك المدينة البعيدة فلتكن سراً، أسافر وأعود، ولا أحد يشعر بي أو يعرف!


طبعا كان ذلك من المحال، فدرايا مدينة صغيرة تنتشر فيها الأخبار كانتشار النار في الهشيم. طار الخبر لكل العائله، وبدؤوا بالتساؤل همساً، فهم يتحرجون من مناقشة أبي الذي يعرفونه حازماً، لا يفعل إلا ماهو مقتنع به، لكن في نفس الوقت لديهم من الفضول ما يكفي للسعي لمعرفة الأخبار، فيسألون أمي فتقول لهم: ”سجلت تسجيلاً فقط في حلب، لكنها لن تذهب للدوام“.


عندما سمعت جدتي لأمي رحمها الله أنني سأدرس في حلب، عبّرت عن غضبها فقالت لوالدي: ”شو شايفها شب مشورب لحتى تروح تدرس برا الشام؟!“ ضحك والدي لقولها، وهو اللطيف الذي اعتادالاهتمام بها والحرص على تأمين كل ما تريده، سلم عليها ومشى دون أي مواجهة.


حتى الآن أتذكر كل تفاصيل تلك التجربة، أمي التي تجهز لي أغراضي قبل السفر، وأبي الذي ساندني في كل ما أطلبه، وانتظرني في الكراجات، وأوصلني إلى محطة الباص، وحتى أنه حمل حقائبي عني.

كان ذلك الدعم المتواصل منه يجعلني أعترف بأن التغيير الذي أحدثته في حياتي وحياة من حولي ما كان بيدي وحدي، فقد كان أبي من ورائي ومن حولي دوماً، وطبعاً بتوفيق ربي ورحمته أني ولدت لأب لايشبه الكثير من الآباء في زمانه، حتى أن إخوتي الشباب الخمسة، قد نشؤوا على نهج أبي وتفكيره في التعامل مع النساء.


بعد أن أمضيت سنة كاملة في دراستي في حلب ونجحت في امتحاناتي، استطعت تقديم أوراق نقلي إلىجامعة دمشق، وتابعت الدراسة فيها حتى التخرّج.


بعد ذلك بسنتين فقط، بدأت فكرة أبي تنتشر في المدينة، أربع فتيات من صديقاتي المقربات من داريا استطعن السفر إلى محافظات بعيدة، يكملن دراستهن الجامعية؛ فآمنة درست الطب البشري، وعبير درست الهندسة المعلوماتية، وفردوس درست الأدب الفرنسي، أما إيمان فدرست العلوم الطبيعية، وبعدهن الكثيرات من النساء حتى أصبح أمراً طبيعياً، والسبب في ذلك كان أبي. ذلك الرجل الذي وثق بابنته، وغيّر نظرة الناس عن المرأة ودراستها، ولو بشكل جزئي، فكان له شرف شق هذا الطريق وسنَّ ُسنَّةً حسنةً في داريا.


أخيراً، إلى أمي وأبي، كل المحبة والدعاء لله بطول العمر والصحة والعافية.

إلى كل الآباء والأزواج والأخوة ، أدعوكم للنظر في معتقداتكم من جديد في كل ما يتعلق أخواتكم وبناتكم وزوجاتكم.

[1] داريا: هي إحدى ضواحي العاصمة دمشق.


عائشة خولاني.



٤٦ مشاهدة
bottom of page