منى الفريج، ناشطة و مديرة منظمة نسوية.
لطالما احتفيْتُ بأحاديث النّساء عن علاقتهنّ بأمّهاتهنّ، وكنت أحاول الحديث في كلّ مرّة عن أمّي، لكنّني كنت أشعر أحياناً أنّ نظرات بعض من حولي توحي بعدم تصديق ما أقوله، فينتابني شعورٌ بالحزن، وأفكّر وحدي بما قلته عنها، لأجد أنّي لم أنصفها لأنها تستحق أكثر ممّا قلته بكثير.
كانت أمي في الرابعة عشر من عمرها حين تزوّجت، حالها كحال الكثيرات من النساء غير المتعلّمات من بنات الريف² في ذلك الوقت وكان والدي يكبُرها بستّة عشر عاماً. أنجبت منه ثلاثة عشر ولداً وبنتاً، وفقدته وهي ابنة ثمانية وثلاثين عاماً، أي إنها وجدت نفسها في ريعان شبابها، مسؤولة عن ستّ فتيات وسبعة شبّان دون معيل، وسط بيئة تراها غريبة وينعتون أبناءها بأبناء الغريبة.
رفضت أمي الزواج من أيّ شخص بعد والدي، كما رفضت أي مساعدة من أعمامي؛ وأخبرتنا لاحقاً أنها أرادت لنا حياة كريمة، ولا نشعر فيها بأيّ ذلّ، وألّا نتعرّض لأي كلمة مهينة في المستقبل، أصرت على تعليمنا جميعاً، وخصوصاً البنات، فقد كانت تعوّض فينا ما حُرِمت منه، وكانت ترفض زواجنا قبل أن ننهي دراستنا، ولا تقبل أن يضغط علينا أحد من العائلة في اختيار الشريك. كانت أشدّ وعياً مقارنة بأترابها ومحيطها، قد يكون الحرمان أو الرغبة في التحدي ما جعلها أكثر قوة وصلابة وقدرة على مواجهة المجتمع.
مواقف كثيرة عالقة بذاكرتي لأمي، تلك المرأة العظيمة. نعم، كل الأمهات عظيمات في نظر أبنائهم وبناتهن، لكن عندما يتطلب الأمر الكثير من القوة والمواجهة، تكون النساء أعظم بكثير من الرجال الذين يفقدون زوجاتهم، لأن الرجال لا يبقون وحيدين بل يسعى المجتمع بأكمله لمساندة أحدهم وإيجاد زوجة جديدة له، على عكس النساء التي تحارب لو فكرت إحداهن برجل آخر، وهكذا كنت أرى والدتي رحمها الله.
لا أنسى ذلك اليوم أبداً، عندما عدت من المدرسة، في أحد أيام عام 1983، وكنت في الصف الثالث الابتدائي. يومها اعتقل أخي البالغ من العمر سبعة عشر عاماً. يومها عدت إلى المنزل بذلك الصخب الطفولي، أريد أن أروي لأمي ما قمت به في المدرسة وتنصت لي كعادتنا اليومية، لكنّها كانت على غير عادتها، فطلبت مني أختي الكبرى أن أتركها وأدخل إلى غرفتنا لكي أنهي واجباتي المدرسية. كانت أمي تدخن بشراهة، تدعو بصوت مرتفع، تارة تدعو أن تعرف مصير أخي، وتارة أخرى تدعو على رجالات الأمن والدولة بأكملها، وتجري اتصالات هاتفية كثيرة، لم أعرف مع من، لكنني كنت أسمع جملة واحدة (بدي أعرف بس وين أخذوه).
بعد إلحاحي المتواصل على أختي الكبرى، بالسؤال عن حال أمي، أخبرتني بأن الأمن داهم منزلنا صباحاً، وأخذت أخي عبد العزيز دون توضيح السبب أو الوجهة.
في ذات اليوم بدأت رحلة المعاناة من غياب أمي، فقد بقيَت لمدة عام كامل تسافر في محاولة منها لمعرفة مكان أخي. كانت نقطة البداية من فروع الأمن في الرقة، وبعدها في دير الزور، ثم حمص ودمشق.
في تلك الأثناء كانت تأتي أحياناً ونحن نيام، وتغادر إما قبل استيقاظنا أو فيما نحن نتهيأ للذهاب إلى المدرسة. كنا نشتاق إليها نحن الذين حُرمنا من الأب منذ سنوات عمرنا الأولى، فكان غيابها وجعاً ربما لم نستطع التعبير عنه حينها، كانت كلماتنا مقتصرة على سؤالها: (كم ستغيبين أو متى ستعودين؟).
كان صوت دعائها وبكائها المتواصل، رغم قوتها التي تظهرها أمامنا، يوجعنا جداً، نحن الذين لم نكن ندرك معنى الاعتقال السياسي الذي عرفناه فقط من خلال الأحاديث بين إخوتي وأمي،أو مع أصدقائهم، إذ عرفنا أن أخي عبد العزيز معتقل سياسي بسبب كتابته قصائد ممنوعة، قصائد معارِضة لسياسة القمع والاستبداد والظلم الواقع على الشعب وتنطوي على محتوى مناهض لأهداف حزب البعث (وثورته).
وقد اعتقل عبد العزيز بناء على تقرير أحد المخبرين، الذي كان رفيق دراسته وكانا يدرسان معاً للتحضير للامتحان، فقام بسرقة القصائد التي كتبها عبد العزيز وتصويرها وإرفاق الصور مع التقرير وأرسله لفرع الأمن العسكري في الرقة، حيث كان خاله ضابطاً في أحد فروع الأمن، وبعدها بأيام حضرت فرقة من الأمن العسكري وقامت بمداهمة منزلنا واعتقال أخي.
تروي أمي كيف داهم الأمن المنزل بوحشية لم ترها من قبل؛ اقتحموا المنزل مسلّحين يسألون عن عبد العزيز ابن السبعة عشر عاماً، ثم دخلوا الغرفة التي كان يدرس فيها وجرّوه إلى السيارة التي كانت تقف أمام منزلنا في إحدى حارات الرقة الشعبية، وكان الناس متجمهرين أمام منازلهم ليروا سبب وجود سيارة أمن في الحي.
كانت أمي قلقة جداً على مصير أخي وكيفية معاملته، وهل يضربونه، وأين هو، وكيف ينام، وماذا يأكل، هي التي كانت تراه صغيراً جداً على دخول السجن. بقيت أمي لمدة عام لا ترانا سوى لساعات قليلة من حين لآخر،إلى أن عرفت مكان اعتقاله: كان فرع فلسطين، الذي عرفنا مؤخراً أنه أحد أسوأ فروع الأمن السورية.
أصبح البيت في حالة حزن دائم، لا مجال للفرح، وأمي كئيبة حزينة، وهي التي كانت مصدر الفرح في حياتنا جميعاً، إضافة لمتاعب الحياة التي تعيشها مع ثلاثة عشر يتيماً، وطلباتهم اليومية التي لا تنتهي، من مدارس وطعام ودواء... ناهيك عن مشاكل المراهقين منا، التي كانت تديرها بصبر وحكمة جعلنا نتساءل فيما بعد: كيف استطاعت التعامل معنا بتلك الطريقة وهي لم تكمل تعليمها،أو تعرف كيفية التعامل مع المراهقين والتغيرات الهرمونية والنفسية التي يعيشونها؟
لا أعتقد أن أي أحد يستطيع نسيان اعتقاله مهما طال الزمن، فكيف بطفل لم يبلغ الثامنة عشر، ما زال أخي حتى اليوم يروي قصة اعتقاله بوجع عميق رغم أنه تحرر من اعتقاله.
عندما طلبت منه أن يحدثني عن اعتقاله قال لي:
”سبب الاعتقال هو كتابتي قصائد ممنوعة. اعتقلت بناء على إخبارية من مخبر كان طالباً معي وكنا ندرس سوية، وأثناء تحضيرنا معاً للامتحان قام بسرقة القصائد وتصويرها وإرفاق الصور مع التقرير وإرسالها للأمن العسكري، واعتقلت لاحقاً من المنزل بمداهمة قام بها عناصر من الزمن. حكم علي بالسجن مدة ثلاث سنوات، مع الحرمان من الحقوق المدنية والعسكرية لمدة خمسة عشر عاماً.
عندما خرجت من المعتقل، جاء بعض الناس للتهنئة بالعودة والسلامة وكان أكثرهم من النساء والأقارب. لم يكن لدي الكثير من الأصدقاء، أصدقائي لم يتعدّوا عدد أصابع الكف الواحدة. كان الناس ينظرون إلي بفخر يشوبه الخوف من الاقتراب والحديث معي بسبب كثرة المخبرين من حولنا. ولم تنتهِ أيام العذاب من قبل عناصر المخابرات وفروعهم، فكانوا يطلبونني إلى فرع الأمن العسكري من حين لآخر، للتحقيق معي واستجوابي حول ماذا أفعل وأين أذهب ومن يأتي لزيارتي، ولا يملون من السؤال عن تفاصيل مملة وتافهة. ولم أستطع الخلاص من تلك المراجعات لفرع الأمن إلا بأداء الخدمة العسكرية الإلزامية ويتابع سرد قصته بألم،
ثم ختم بالقول: ”الحياة يا أختي هي رحلة تعب لنا نحن الذين لا تعجبنا القوانين التي وضعت لتقييد حرية الناس لا لخدمتهم كما تقول الحكومات وتدّعي“.
أمي: أرملة لأكثر من أربعين عاماً مع شبان وصبايا مختلفي الآراء والانتماءات فأحد إخوتي كان سلفياً والآخر ناصرياً، أما أنا فكنت معارضة لكل شيء ولا يعجبني هذا المجتمع والقيود التي يفرضها على النساء. كان يتوجب عليها أن تكون حكيمة ومتابعة لكل صغيرة وكبيرة في بلد صغير يحسب عليها حتى النفس ويمنع عنها التفكير بنفسها، فليس من حقها أي شيء بعد فقدان الزوج وإنجاب عدد كبير من الأبناء والبنات، في مجتمع يحكم بالإعدام على مشاعر المرأة بعد فقدان الزوج.
لم نكن ندرك كمّ المعاناة التي تعانيها تلك المرأة وهي تبتسم في وجوهنا أيام التخرج أو أعياد الميلاد أو الزواج. لم نكن نأبه لما تحتاجه هي، إذ كنا نرى أن دورها في الحياة هو تربيتنا ومتابعتنا، ونعتبر أن سعادتها محصورة في رؤيتنا.
لم نكن نفكر بما تريده هي ولا كيف لها أن تتحمل كل ما تحملته، دون متابعة نفسية لما يؤرّقها أو يشغل بالها بالرغم من أننا كنا نراها في كثير من الليالي غير قادرة على النوم.
حال أمي، وإن كانت استثنائية بصبرها وعطائها، هو حال سوريات كثيرات نذرن أنفسهن ومشاعرهن لأبنائهن وبناتهن في بلاد ومجتمعات تمتصّ أرواح النساء وتستهلك طاقتها القمع والرقابة الدائمين إلى أن يرحلن.
لكن وجع النساء هذا ليس بقديم وانتهى، وليس بجديد أيضاً، فهو ممتد منذ أيام الأسد الأب، فالكثير منهن فقدن أولادهن وبناتهن وأزواجهن وبكين لياليَ طويلة، وظللن ينتظرن ولو خبراً يبرد قلوبهن. واستمر الأسد الابن بذات النهج، فما زالت السجون ممتلئة بشبابنا وبناتنا، وما زالت الأمهات ينتظرن أي خبر أو بارقة أمل تلوح بالأفق لتتكحل عيونهن برؤية أولادهن من جديد.
¹ يطلق توصيف الغريبة في بعض المجتمعات السورية على المرأة التي تتزوج رجلاً وهي ليست قريبة له، أو ليست من قريته أو مدينته وعادة ما يتم إطلاق هذا التوصيف من قبل عائلة الزوج وأهالي منطقته.أديبة قصاصة وَمُربية سُورية.
² في دير الزور.
منى الفريج، ناشطة و مديرة منظمة نسوية.