منال هاشم، ناشطة اجتماعية.
في الخمسين من عمرها، متوسطة الطول، واسعة العينين، بحجابها الأبيض وفستانها المزهّر، الجميلة المتعبة، لم تكن ثائرة، ولا متمردة، ولم تكن تهتم لما يحصل خارج منزلها وحياة أولادها، قليلة الزيارات والعلاقات الاجتماعية، ولا تعرف من العالم إلا داريا¹ (مدينتها)، ودمشق لأنها كانت تزورها مضطرة لمراجعة دائرة رسمية. لا تعرف القراءة أو الكتابة، وكان جل اهتمامها منصبّاً على أبنائها، إعداد أكلاتهم التي يحبونها. كنت أحب الحديث معها، رغم أن معظمه حزين، لكنها كانت تصف الأمور بطريقة محببة، أكثر ما أحبه في حديثها وصفها للطعام وفوائده. جلست معها في فسحة الدار، حيث الشمس ونباتاتها، وهي في المطبخ تحضر الفول المدمس وتحدثني عن أهمية تناول البصل معه: ”بصلة كبيرة، البصل منيح كتير لفقر الدم، مع الفول وعصرة ليمون ودبس الرمّان والبقدونس والبندورة، وزيت الزيتون من عند خالتك أم العز، وممممم.. ياعيني“.
حدثتنا مرة عن أحلامها التي ستحققها، بميراثها، وأن أهم ما ستفعله هو أنها ستعطي كل أبنائها بالعدل، ولا فرق بين البنات والصبيان عندها، ليستطيعوا العيش في منازلهم الخاصة، وتشتري لنفسها دكاناً تؤجره لتعيش منه، فهي لا تثق بزوجها إن مرضت أو احتاجت إليه، ولا تريد أن تكون عبئاً على أي من أبنائها عندما تكبر! وكيف أنها لن تفعل كوالدها الذي قرر بيع أملاكه عقاباً لأبنائه، ليحرمهم من الميراث ما استطاع، وكان قد بقي من أملاكه القليل بعد وفاته. إلا أنها لم تحصل على حصتها، فقد اختلف إخوتها الذكور فيما بينهم، إلا أنهم كانوا متفقين على إيجاد طريقة لحرمان البنات من الميراث، كانت تقول: ”لأ، لأ أنا مستحيل فرّق بين ولادي“. قالت لها جارتها: ”إيييه بس بدها صبر“، وتجيبها أم العز ضاحكة بعينين حزينتين: ”صبر؟! ما بعد الصبر إلا المجرفة والقبر“.
في مدينتها تعاني الكثير من النساء من الحرمان من الميراث، أو في أحسن الأحوال يتكرم عليها إخوتها الذكور بقطعة أرض لا تباع ولا تشترى ولا تزرع حتى، أو يقولون لها إن الشقة الفلانية أو المكان الفلاني هي ميراثها، لكن لا يحق لها أن تستفيد منه، فهي لا تعرف كيف تدير أموالها ويستفيد منه غرباء (أبناؤها وزوجها)!
بعد انطلاق الثورة في آذار 2011 شارك أكبر أبنائها في المظاهرات الأولى، واعتقل، وكان أول من حاول استغلالها لدفع مبالغ لمعرفة مصيره هم إخوتها الذكور، أرهقوها وهم يصفون لها أشكال التعذيب التي يتعرض لها وإن لم تدفع فلن يرفعوا عنه التعذيب. صدقتهم، لكنها لم تملك المال، بكت كثيراً، وذكرت نفسها بالصبر.
لم تكن كباقي أمهات المعتقلين، اللاتي ذهبن للمطالبة بأبنائهن في فرع الجوية، وخرجن في مظاهرات أيضاً، إذ كانت تخشى زوجها، وتخشى النظام، وتخاف أن يعتقل ابنها الآخر، قالت: "مو عدل، وإذا طلع حكى بالشارع مشان ولاد درعا! خلص يحكوا معه ويطالعوه، ليش هيك بدهم يعذبوه. وهو الله يهديه ليش يقرب عالظالمين، هدول ما بخافوا الله" وبكت، بكت كثيراً.
في أيام مجزرة داريا الكبرى في 25 آب 2012 خرجت مع ابنها الأوسط وعائلته، وبقي الأكبر في المدينة، والأصغر خرج باتجاه صحنايا (منطقة متاخمة لداريا)، عاد الناس إلى بيوتهم بعد أن وصلتهم أخبار خروج الميليشيات الإيرانية وقوات النظام من داريا بعد أن قتلوا واعتقلوا وعذبوا، وتركوا على الجدران المدينة عبارات قذرة، كأفعالهم. عادت أم العز أيضاً إلى منزلها، وقفت خائفة وعلى وجهها علامات استفسار كثيرة، شحوبٌ، ذهول، ما الذي حصل؟! لم تفهم لماذا يقوم النظام بمثل هذه المجزرة! قالت: ”أنا شفتهم بالمظاهرات طلعوا حاملين ورود، بدها كل هالقتل؟!“.
انقطعت أخبارها في فترة النزوح، ففي نهاية 2013 قام النظام باجتياح داريا، وخرج معظم أهلها منها، فيما حوصر الباقون فيها.
في نهاية 2014 زرتها في مكان نزوحها عند قريبتها، في منطقة نهر عيشة القريبة من داريا، ومن دمشق، وكنت قد حملت معي صحناً من الفول الذي تحبه، قلت لها مازحة: ”بعرف أنك نزحتِ بس حتى ما بقى تطعميني فول، هي جيت وجبت الفول معي، بس بدي من عندك البصل“. لكنها لم تضحك، ولم تبتسم حتى! بكت، وبكيت، لا أعرف لماذا. حدثتني أنها لم تعد تأكل الفول، فابنها الأصغر يحبه، وكان آخر ما أكله قبل أن يعتقل صحن فول مع بصل، وقد حرّمته على نفسها إلى أن يتم الإفراج عنه فتأكل معه.
في مكان سكنها الجديد، حيث لا شمس تدخل الغرفة ولا نافذة تجدد هواءها، طالت الليالي على أم العز وأحفادها، في انتظار ولدها، والصغيران في انتظار والدهما. أصيبت بالسرطان، وهنا اجتمع عليها استبداد النظام وظلم الأقربين معاً. لم يتحمل زوجها أن تكون مريضة، فهذا ليس وقت المرض! نزوح وراتب تقاعدي لا يكفي أساسيات العيش، وفوق هذا تقصير منها في أداء واجباتها نحوه! كان يقول لها أحياناً: "إيييي، شدي حالك شوي، شو ما حدا مرض غيرك، ولا ما حدا أخدوا ابنها غيرك؟!“ تبكي بدون دموع، بدون صوت.
في الفترة ما بين 2014-2015، حاولت الحصول على ميراثها من والدها المتوفى قبل سنين، لتستطيع الحصول على العلاج، لم تستطع طبعاً، فهي أساساً لا تعرف بالقانون ولا بحقوقها. وبعد اعتقال ابنها، لم تعد تؤمن بالوطن ولا بالقانون ولا حتى بأهلها. بعد أن وصلني خبر إصابتها بالسرطان، وتلقيها علاجاً بالأشعة، بقيت معها أياماً عديدة، رافقتها إلى مشفى المواساة حيث كانت تتلقى العلاج، المشفى الذي كانت تسميه (مسلخاً) تقول لي: "هي البلد ما فيها مشافي، هي البلد فيها مسالخ".
في أحد المرات وبعد جلسة الأشعة المرهقة لها، ونحن في طريق العودة بباصات النقل الداخلي المكتظة، وانتظار أكثر من نصف ساعة والركض وراء الباصات، استطعنا الركوب وقوفاً، ولم نجد من يعطيها مكانه، قال لها أحد الشبيحة بوقاحة (وما أكثرهم في طرقات دمشق وباصاتها في تلك الفترة): "معلش خالة بدها صبر". همست لي: ”إن شاء الله قربت عالمجرفة والقبر".
توفيت أم العز، بعد أن باعت قطعتي ذهب كانتا معها تركتهما للأيام السوداء، الأيام التي يتخلى فيها الأخ والأم والزوج عنها، يعيشون معها وبالقرب منها، لكنهم عن القلب أبعد ما يكون. .
ماتت أم العز ولم تحصل على ميراثها، ولم تحقق أحلامها، في عدم التفريق بين أولادها في الميراث، ودون أن ترى ابنها المعتقل، فقد قتل تحت التعذيب، لكنها لم تعلم بذلك، فقد عرفنا خبر موته في المعتقل بعد وفاتها بسنتين، عندما بدأ النظام بتسجيل المقتولين تحت التعذيب في السجلات المدنية، ذهبت ابنتها إلى مبنى النفوس واستخرجت ورقة إخراج قيد، وكان (أحمد) قد مات بنوبة قلبية! ماتت ولم تعلم، ماتت ولم تأكل الفول.
لم تنته الحكاية، فزوج أم العز تزوج بعد وفاتها مباشرة، واشترى لزوجته ذهباً، استطاع أن يشتري هدية! وصار يعرف كيف يهدي المرء زوجه! لكن المال كان من حصته من ميراث أم العز، الذي استطاع ابنها الأوسط أن يحصل على ما استطاع منه، بينما لم تستطع أم العز حتى أن تعرف أنها حصلت على الميراث، فقد حصلت عليه بعد وفاتها بسنة! لكن أيضاً، لم ينفق هذا الجد على أحفاده من ابنه المعتقل، ولا حتى من حصتهم من ميراث جدتهم.
النظام أيضاً هجّرابنها الأكبرمن مدينته بعد حصار خمس سنوات، لم تره فيها، ولم يستطع وداعها قبل وفاتها.
ظلم الأب، الزوج، والظلم الأكبر في السجن الكبير (سوريا) الذي قَتل أحمد، ابنها، تحت التعذيب، وقُتلت هي بقتل كل أمل كان قد ينقذ حياتها، فقد أخبرتني الطبيبة مراراً: "مريضتك ما بدها تتعافى“ فهل ستكون نهاية صبر النساء السوريات على معاناتهن والظلم الذي تعرضن له من النظام المجرفة والقبر؟ أم في مسالخه (مشافيه) قهراً؟ أم أن هناك أمل ما بالعدالة؟
¹ داريا هي إحدى ضواحي مدينة دمشق.
منال هاشم، ناشطة اجتماعية.