سمر كوكش: ممثلة و ناشطة مدنية.
تباً لهذه الذاكرة، خانتني كثيراً وما تزال، لكنها تأبى أن تخونني حين يتعلق الأمر بذاك الصوت:”سمر فيقي! عم ياخدواسارة…“
خرج من اعتقال دام أربعة عشرة عاماً، في معتقلات الأسد الأب. رزق بسارة بعد خروجه بعام واحد. وحين بلغت سارةالتاسعة عشرة من عمرها اعتقلت.
أواخر شباط من العام 2014, الجناح الثاني من سجن عدرا شهير يدعى "جناح التهم الاقتصادية“ أغلب المقيمات فيه متهمات بالسرقة، بغض النظر عن حجم القيمة المادية للمسروقات، سواء كانت سرقة فرد أم دولة! فُتح باب المهجع ودخلت فتاة شاحبة، نحيلة، بشعر طويل نسبياً، جلست في الزاوية، أدخلتها المشرفة، وقبل ان تغلق الباب سألتها: "أنت ساره العلاو؟ أجابتها الفتاة نعم!."
في تلك اللحظة اخترقت ذاكرتي جدران السجن لتعود لذلك اليوم الذي شاهدتها فيه، تدلي باعترافاتها على شاشة التلفزيون السوري وعنوان كبير يظهر في أسفل الشاشة مكتوب فيه (الإرهابية سارة خالد العلاو - أميرة جبهة النصرة في البوكمال)
نعم تذكرتها، تذكرت كم شعرت بالحزن من أجلها وبالحقد الكبير على هكذا نظام يعتقل أطفالا،ً كانت من مواليد ١٩٩٤، أي تكبر ابنتي بأربع سنوات.
بعد خمسة أشهر من ذلك اليوم الذي شاهدت فيه ظهور سارة على التلفاز تمّ اعتقالي، بسبب مشاركتي في الاغاثة وإدخال الأدوية للمناطق المحاصرة، ثم التقيت بها في أحد أيام عام ٢٠١٤، كنت موقوفة من قبل (محكمة الإرهاب)[1] التي أنشأها النظام في بداية الثورة، وكان من المفترض أن أكون مقيمة في الجناح الرابع بسجن عدرا للنساء (جناح الارهابيات كما كانوا يطلقون علينا، اللاتي مثلن أمام محكمة الإرهاب وتمّ إيداعهن في السجن إلى أجل غير مسمى) ولكثرة أعدادالنساء المعتقلات، قررت إدارة السجن نقل بعضنا إلى إحدى غرف الجناح الثاني (جناح الاقتصادية) كون عدد المقيمات فيه قليل.
تمّ نقلنا، كان ذلك بمثابة عقوبة كبيرة بالنسبة لنا، إذ لم نكن لنحتملَ التواجد في مكان تملؤه صور "السيد الرئيس" ومع نساء يقدِّسنه وينظرن إلينا باحتقار على أننا (خونة للوطن).
حاولت التحدث إلى سارة، كنت أعرف مقدار صعوبة الدخول إلى هكذا مكان مليء بالنساء والشعور بالغربة والوحدة ، وهو ما مررنا به جميعاً في أول يوم لنا، لكن وجود بعض النساء اللاتي يحاولن احتواء المعتقلة منّا يهون علينا كل شيء، وهذا ما حاولت فعله مع سارة، لكن بدا لي أنها لم تكن ترغب في الحديث، تركتها وذهبت إلى سريري.
مرت الأيام، وعلى ما يبدو أنها احتاجت لمن يصغي إليها، فجاءتني، وبدأنا الكلام… تحدثنا كثيراً عن الثورة، وعما قمنامن أعمال ساقتنا إلى ذاك المكان البغيض، لكننا لم نندم عليها، فما زالت الثورة حلمنا الذي لم ولن يتوقف.
رغم الفضول الذي كان يعتريني، لم أرغب بسؤالها عن المقابلة ولا الحجاب الذي لم تكن ترتديه أثناء حديثنا، ولكنهاعادت بعد فترة وارتدته، لكن ليس كما ظهرت به على التلفاز. لم أرغب كذلك بسؤالها عن الاعترافات التي أدلت بها فيذاك اللقاء التلفزيوني، ولا إذا ما كانت فعلًا أميرة جبهة النصرة وغيرها الكثير من الأسئلة… رغبتُ في أن تبوح لي بكلشيء من تلقاء نفسها فقط عندما تشعر بأنها مستعدة لذلك.
تكررت جلساتنا وسهراتنا في الليل، فيما بقية المعتقلات نائمات، حتى جاء اليوم الذي أخبرتني فيه عن كل ما تعرضت له في الفروع الأمنية، وكيف غرّروا بها، مدعين أنها إذا ظهرت على التلفاز وأدلت بشهادتها المكتوبة من قبلهم، فستعود إلى البيت وإلى حضن أبيها وأمها "اعترفي أو سجلي مقابلة للتلفزيون وبكرا بترجعي عالبيت“… تلك الكذبة التي نالوا بها من معتقلات كثيرات ومعتقلين كثيرين.
فيما نالوا من بعضهم الآخر عن طريق تهديدهم بكثير من الأشياء، بما فيها إحضار أهلهم أو أطفالهم إلى الفروع الأمنية.
كثيرات مثلها خدعن ووافقن على تصوير مثل تلك اللقاءات التلفزيونية، فنُقلن إلى سجن عدرا. وكانت سارة تابعة للمحكمة الميدانية العسكرية[2] ، كانت مفعمة بالحب والحياة والأمل، رغم كل ما مرت به من تعذيب وإهانات جارحة ورغم ما وُجِّه إليها من تهم باطلة و... و...، رغم كل ذلك لم تنفكّ سارة تبثّ فيَّ الصبر والأمل بأن القادم أجمل وأننا سنخرج ونكمل ثورتنا. توطدت علاقتنا كثيراً مع الأيام، أصبحت ابنتي التي لم ألدها، ورأت فيّ أماً لها.
مرت الأيام بحلوها ومرها، مغامرات كثيرة خضنا غمارها معاً في السجن مع بضعة فتيات يشبهْنَنا، لدرجة أننا استطعنا إيصال أخبار ما يحدث من انتهاكات بحقنا كسجينات من قبل العقيد عدنان سليمان المسؤول عن السجن، وحتى المشرفات وبعض السجينات اللاتي كن يساعدنه أكلت من يديها ثرود البامية الذي لم آكله منذ وفاة والدتي في عام ١٩٩٢ رحمها الله، يا الله ما أطيبه!
في كانون الأول للعام 2015 مات زهران علوش. شاهدنا الخبر من السجن على شاشة التلفاز. في اليوم التالي على ما أذكر جاء أمر بنقل سارة إلى جناح آخر، مع تجريدها من خزانتها وسريرها. وعن طريق الشرطية المسؤولة عنا (أم علي) والتي تربطني بها علاقة مصلحة (مثل الغالبية العظمى للمعاملات في بلدي، على طريقة ادفع فتحصل على ماتريد) علمت أن إحداهن، وبالتحديد مشرفة الجناح الجديدة، تناهى إلى سمعها من خارج مهجعنا أن سارة قالت عن زهران علوش ”الله يرحمه" بعد سماعها خبر وفاته.
جُنَّ جنوني، فهذا لم يحدث مطلقاً، وأنا العارفة كوني مقيمة معها في نفس المهجع.
لكن للأسف، من يصدق شهادة إرهابية بحق إرهابية أخرى!؟
سألْتُ الشرطية: وما الحل؟
كالعادة، كان الحل في المساومة مع العقيد عدنان آمر السجن على مبلغ معين من المال لإعادتها إلى الجناح، وكذلك إعادةالسرير والخزانة إليها.
تمت المساومة بنجاح بمبلغ كبير جداً، بالكاد استطعنا جمعه أنا وبعض الفتيات، بالإضافة إلى مساهمة خالها الذي أحضرلها المال خلال الزيارة. خالها الذي كان يزورها بشكل دوري بسبب وجوده في دمشق، ولم تكن هناك أي صعوبة كما الوضع عند أهلها الذين يسكنون في دير الزور، وكانوا مسنّين حتى أنني أذكر في إحدى الزيارات العائلية كم صُدِمْتُ عندما رأيت ذلك المسنّ وهو يجر زوجته على الكرسي المتحرك تحمل في حضنها بطيخة لأن سارة تحبّ البطيخ… ياالله! كيف استطاع المشي كل تلك المسافة من سجن الرجال حتى سجن النساء!؟ المهم تمّ إيصال المال إلى العقيد عدنان، أخذه ونقلها، لكن ليس كما أردنا، بل إلى جناح آخر.
في سجن عدرا كان يوجد مكان اسمه الندوة، أنشأته سجينة محكومة بالمؤبد بسبب جريمة قتل، وذلك بالاتفاق مع العقيد عدنان ، بعد أن قبض المبلغ المرقوم، ووعدته بحصة ثابتة من الأرباح تدفعها له شهرياً.
كانت تلك الندوة متنفساً لنا نحن (الإرهابيات) فقد كان باستطاعتنا دعوة صديقاتنا من أجنحة مختلفة والاجتماع بهنّ فيها.
أصبحت الندوة مكاناً للقائي مع سارة و بعض الصديقات اللاتي كّن يشاركْننا حلم الثورة والكثير من الأفكار الأخرى بما فيها مؤامراتنا الصغيرة لتحسين ظروف اعتقالنا. توالت لقاءاتنا بشكل يومي تقريباً، حتى جاء حزيران للعام 2016، أيقظتني إحدى الفتيات في المهجع وهي تصرخ: "سمر فيقي! عم ياخدوا سارة!"
انتفضت كالمجنونة، فوجدت الشرطي (حسن) واقفاً، سألته ما إذا كان الخبر صحيحاً، فهز رأسه بالإيجاب. حاولت معرفة معلومات أخرى لكنه لم يجبني، كنا بطبيعة الحال مراقبين.
انتظرت مرورها أمام قضبان الحديد، جاءت ووجهها أصفر، نظراتها تائهة، لا تعرف ماذا تفعل…
تمكّنْتُ من احتضانها من خلال القضبان فهمست لي" خّبري خالي" قبّلْتُها قبل أن تذهب ثم اختفت،اختفت سارة …
عدت إلى مهجعي مصدومة بل مصعوقة، أسئلة كثيرة أخذت تنهش خاطري: هل ما يجري حقيقة أم أنني ما أزال نائمة؟ إلى أين ذهبوا بها؟ إلى أين أخذوها؟.. كيف أوصل الخبر إلى خالها ونحن مراقَبات بشكل دائم؟ حتى الحديث عبر الهاتف مراقب، وجميع الأرقام التي نطلبها مسجلة لديهم…
كانت آلاف الأسئلة تدور في بالي، انتظرت قدوم الشرطية ”أم علي“ علّني أحصل على إجابات.
خرجتُ لرؤيتها، وفي نفس الوقت جاء العقيد عدنان سليمان وكأنه تقصّد إسماعي الجواب، فتوجّه بالكلام إلى الشرطية وقال:
”وزعي التركة تبع سارة“ وعلى وجهه ابتسامة لا بل ضحكة عريضة.
بعد فترة أخذوا إحدى السجينات إلى أحد فروع التحقيق، وحين عادت أخبرتني بأن المحقق قال لها: ”قلمي هذا أخذ سارة إلى الإعدام“. يا الله ما أسهل تلك الكلمات عليهم!
هل أُعدِمت حقاً؟ هكذا بكل بساطة، بدون محاكمة أو محامٍ يدافع عنها!
حتى هذا اليوم يرفض عقلي وقلبي وروحي تقبّل غياب سارة. ترى هل أراك مجدداً يا صغيرتي ورفيقتي؟ فما زال لدي الكثير… الكثير لأخبرك به… خيبات أملنا، ثورتنا، أحلامنا الضائعة ومستقبل أطفالنا المجهول… لا أدري فربما أنتِ منتنتظرين قدومي إليكِ.
لم تكن سارة العلّاو الوحيدة التي أخذت بدون محاكمة، فهناك الكثيرات والكثيرون ممن لا نعرف مصيرهم حتى الآن، ومازلنا ننتظر أن تتحقق العدالة يوما ماً.
[1] تأسست محكمة الإرهاب (أو محكمة مكافحة الإرهاب) عام ٢٠١٢ بموجب القانون رقم ٢٢ للنظر في جرائم الإرهاب، وتُعتبر بديلا عن محكمة أمن الدولة التي ألغيت في عام ٢٠١١.
وينص القانون رقم ٢٢ على أنه "لا تتقيد المحكمة بالأصول المنصوص عليها في التشريعات النافذة". وقد استخدمت السلطات السورية محكمة الإرهاب لقمع المعارضين والمشاركين في الاحتجاجات السلمية.
[2] تم إنشاء المحكمة الميدانية (أو محكمة الميدان العسكرية) بموجب المرسوم 109 لعام 1968 الذي ينص على إجراءات تخالف أبسط المبادئ الحقوقية المتعارف عليها. تم توسيع اختصاص المحكمة الميدانية بموجب المرسوم رقم 32 لعام 1980 وأصبحت تشمل العسكريين والمدنيين في أوقات السلم والحرب. وقد استخدمت السلطات السورية في عهد الرئيسين الأسد الأب والابن المحكمة الميدانية للتنكيل بخصومها منذ عام ١٩٨٠ وبعد اندلاع الثورة السورية عام ٢٠١١. ألغيت المحكمة الميدانية بتاريخ ٣ أيلول ٢٠٢٣، بموجب المرسوم التشريعي رقم 32 للعام 2023.
سمر كوكش.